في أيام التشريق، يمتد الزمن لا ليضيف طقوسًا جديدة، بل ليُكرّر الفعل ذاته، حتى يرسخ المعنى.
رمي الجمرات يُعاد، وكأن النفس تحتاج أكثر من محاولة لتتحرر.
لم تكن حصاة واحدة لتكفي، ولا يوم واحد ليطهر القلب مما تراكم فيه عبر سنين الغفلة.
وفي كل رمية، تتجدد المواجهة. أنت تُعيد الرجم، لكنك في كل مرة ترجم شيئًا مختلفًا: شهوة قديمة، نية فاسدة، رغبة خفية، غلًا لم تلتفت إليه إلا الآن.
كأن منى، في هذه الأيام، ليست فقط واديًا، بل مصفاة روحية لا تتركك تعبر منها حتى تُفرغ كل ما حملته إليك من عوالق الطريق.
وفي خضم هذا التحرر المتكرر، يبدأ الخيط الخفي لمكة يشدّك.
الوداع يلوح.
القلوب التي كانت مشغولة بالفعل، بدأت تُعدّ نفسها للغياب.
كأن بين منى ومكة مسافة وجدانية لا تقاس بالأمتار، بل تقاس بمقدار الانشداد الروحي.
منى تقول لك: طهّرتك.
ومكة تهمس: اقترب وداعي.
وهنا، في هذه المساحة التي لا تُرسم على الخرائط، تحدث لحظة وجودية نادرة:
لحظة يكون فيها الإنسان مشطورًا بين جهتين مقدستين: جهةٌ تطهره، وجِهةٌ تتهيأ أن تفقده.
لقد رميتَ الجمرات، ولم تعد من كنت.
وها أنت تُرمق الكعبة عن بُعد، وكأنك تسألها في صمت:
كيف أودّعك يا من لستِ مكانًا؟
كيف أغادرك يا من سكَنْتِني أكثر مما سكَنْتُك؟
بين منى ومكة، الحاج يسير؛ لكن ما يتحرك ليس قدميه فقط، بل قلبه.
التحرر لم يكتمل بعد، والفقد لم يبدأ تمامًا.
هي لحظة شبه نهائية، كأن الله يمنحك فيها فسحة أخيرة لتفكر:
هل ستحمل معك هذا النور؟
هل ستعود مختلفًا حقًا؟
هل سيبقى كل ما تركته هنا خلفك، أم أنك ستعود وتلبسه حين تغادر؟
أيام التشريق لم تكن عبثًا. هي تثبيت.
الرجم فيها ليس تكرارًا، بل ترسيخٌ نهائي لمعنى الخلاص.
وطواف الوداع ليس فقط وداع الكعبة، بل وداعًا نهائيًا للذات القديمة التي دفنتها بين صعيد عرفة وجمرات منى.
0 تعليق