تقف البرازيل على أعتاب تحوّل كبير في علاقاتها مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وهو تحوّل قد يبلغ ذروته في صورة قطع العلاقات الدبلوماسية بالكامل، ويأتي هذا التوجه نتيجة لتصاعد حدة التصريحات البرازيلية الرسمية، التي تُعبر عن استياء عميق ومتزايد من السياسات الإسرائيلية، ولا سيما فيما يتعلق بالوضع الإنساني الكارثي في غزة والمعاملة المُمارسة تجاه الفلسطينيين.
وكانت الأشهر القليلة الماضية قد شهدت تصريحات شديدة اللهجة من الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي وصف الأفعال الإسرائيلية في غزة بأنها "إبادة جماعية".
هذه التصريحات القوية، التي نُشرت في وسائل إعلام مثل تايمز أوف إسرائيل وأفريكا نيوز، أثارت ردود فعل غاضبة من تل أبيب.
وفي رد فعل حاد، أُعلن دا سيلفا "شخصًا غير مرغوب فيه" من قبل وزير الخارجية الإسرائيلي، وهو ما يعكس عمق الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة بين البلدين، وعكس هذا التصعيد ليس فقط استياءً لفظيًا، بل أشار إلى تحول منهجي في النظرة البرازيلية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
من الاعتدال إلى المواجهة
يمثل هذا التحول في الموقف البرازيلي ابتعادًا واضحًا عن السياسات الأكثر اعتدالًا التي تبنتها الحكومات السابقة تجاه إسرائيل.
يبدو أن الحكومة الحالية، بقيادة لولا دا سيلفا، قد تبنت نهجًا دبلوماسيًا يتوافق بشكل أكبر مع مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، وتدعم بشكل أكثر صراحة القضية الفلسطينية.
هذا التوجه لا ينبع فقط من قناعات سياسية راسخة لدى القيادة الحالية، بل يتأثر أيضًا بضغوط داخلية وخارجية متزايدة تطالب باتخاذ موقف حازم ضد الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأشار تقرير لوكالة الأنباء البرازيلية الحكومية أجينسيا برازيل وميركوبرس إلى أن البرازيل تُقيّم حاليًا اتخاذ إجراءات لقطع العلاقات العسكرية مع إسرائيل. هذا التقييم يشمل إلغاء صفقات عسكرية سابقة، مما يدل على أن الحكومة البرازيلية لا تكتفي بالإدانة اللفظية بل تتجه نحو خطوات عملية وملموسة، وأشار موقع برازيل دي فاتو إلى أن النقاشات داخل الأوساط الحكومية البرازيلية تتجاوز مجرد التنديد، لتشمل خيارات قد تكون معقدة دبلوماسيًا لكنها تعكس جدية الموقف.
تداعيات الخطوة المحتملة: رسالة إلى المجتمع الدولي
يرى المراقبون أن قطع العلاقات الدبلوماسية، إذا ما تم اتخاذ هذه الخطوة، سيكون له تداعيات كبيرة على المشهد الجيوسياسي؛ إذ من المحتمل أن يشجع هذا القرار دولًا أخرى في أمريكا اللاتينية وحول العالم على إعادة تقييم علاقاتها مع إسرائيل، مما قد يؤدي إلى عزلة دبلوماسية متزايدة للحكومة الإسرائيلية. تُشكل هذه الخطوة سابقة مهمة، وقد تُعزز الدعوات العالمية لمزيد من المساءلة بشأن النزاع.
كما أنه سيُشكل ضغطًا إضافيًا على إسرائيل لتغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين، ويُبرز أن هناك ثمنًا دبلوماسيًا وسياسيًا يُدفع مقابل الاستمرار في انتهاك القانون الدولي وحقوق الإنسان. هذا التوجه البرازيلي لا يأتي من فراغ؛ فهو يتزامن مع تصاعد حدة التوترات في المنطقة ومع تزايد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
البرازيل وقضايا أمريكا اللاتينية: تأثير إقليمي محتمل
قد تتردد أصداء قرار البرازيل المحتمل بقطع العلاقات مع إسرائيل بقوة في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. فالبرازيل، كأكبر اقتصاد في المنطقة وقوة دبلوماسية رئيسية، غالبًا ما تحدد مسار السياسة الخارجية للعديد من جيرانها.
وتاريخيًا، دعمت العديد من دول أمريكا اللاتينية القضية الفلسطينية، ولكن بدرجات متفاوتة من الصراحة. ومع تصاعد حدة التوترات في الشرق الأوسط، يمكن لموقف البرازيل أن يدفع دولًا أخرى مثل كولومبيا وتشيلي، التي أبدت أيضًا انتقادات حادة لسياسات إسرائيل، إلى اتخاذ خطوات مماثلة.
وهذا التنسيق المحتمل يمكن أن يُشكل جبهة إقليمية موحدة تضغط على إسرائيل من خلال القنوات الدبلوماسية والتجارية، مما يعزز فعالية الرسالة البرازيلية.
يمكن أن يؤثر هذا أيضًا على مكانة إسرائيل الدبلوماسية في المنطقة، والتي عملت على تعزيزها في السنوات الأخيرة من خلال التعاون الاقتصادي والأمني.
التداعيات التجارية ودور البرازيل في المحافل الدولية
بالإضافة إلى الأبعاد الدبلوماسية والجيوسياسية، فإن قطع العلاقات المحتمل سيكون له تداعيات اقتصادية وتجارية على البلدين.
على الرغم من أن حجم التجارة الثنائية بين البرازيل وإسرائيل قد لا يكون الأكبر لكلا البلدين، إلا أن أي قطع للعلاقات يمكن أن يؤثر على قطاعات معينة، خاصة في مجالات التكنولوجيا الزراعية، الدفاع، والابتكار التي تشهد تعاونًا. سيتعين على البرازيل البحث عن بدائل للمنتجات والخدمات الإسرائيلية، في حين ستخسر إسرائيل سوقًا كبيرًا ومؤثرًا في أمريكا اللاتينية.
على صعيد المنظمات الدولية، فإن موقف البرازيل الحازم يمكن أن يُعزز صوتها داخل محافل مثل الأمم المتحدة. فالبرازيل، التي طالما كانت من الداعمين لحل الدولتين ولقضايا حقوق الإنسان، ستجد نفسها في موقع أقوى للمطالبة بمساءلة إسرائيل عن انتهاكات القانون الدولي.
هذا الموقف قد يُشجع دولًا أخرى ضمن مجموعة الـ 77 والصين، وكذلك في حركة عدم الانحياز، على تبني مواقف أكثر صرامة، مما يُصعّب على إسرائيل كسب الدعم الدبلوماسي في هذه المنتديات. إن سعي البرازيل لتحدي الوضع الراهن يُرسل إشارة واضحة بأن الصمت على الانتهاكات لم يعد مقبولًا، وأن الدول الكبرى في الجنوب العالمي مستعدة لاستخدام ثقلها الدبلوماسي لتحقيق العدالة.
وتزايدت الضغوط على حكومة لولا من قبل منظمات المجتمع المدني والبرلمانيين في البرازيل، حيث تُطالبهم النقابات العمالية والمجموعات الداعمة لحقوق الإنسان بـ "تحديد المثال" في قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، كما ورد في تقرير لـ جرين ليفت في يونيو 2025.
يبدو أن البرازيل، بإرثها الدبلوماسي القائم على السلام والتعددية، مستعدة لاتخاذ خطوة جريئة قد تُعيد تشكيل جزء من توازنات القوى الدبلوماسية على الساحة الدولية، وتُرسل رسالة واضحة بضرورة احترام القانون الدولي.
0 تعليق