كأنك تراه

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
كأنك تراه
صورة: وزارة الحج والعمرة
أحمد والزهراءالإثنين 9 يونيو 2025 - 09:33

الحج، في جوهره، ليس مجرد شعيرة دينية تؤدى وفق طقوس محددة في زمان ومكان معلومين، بل هو تجربة وجودية فائقة، يعبر فيها الإنسان من حدود الزمان المألوف إلى الأبدية، ومن جغرافيا الجسد إلى رحابة الروح. إنه عبورٌ مزدوج: من المادي إلى المعنوي، ومن الفردي إلى الكوني. فالإنسان حين يخلع ثيابه ليلبس الإحرام، لا يتجرد فقط من مظاهر الزينة، بل يتجرد من وهم الامتلاك، من تضخم الذات، من هويات مصطنعة صنعتها الحدود والعناوين، ويتحول إلى كائن يتساوى مع غيره في أبسط صور الحياة: نية، جسد، دعاء.

في لحظة الوقوف بعرفة، يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام ضعفه، يكتشف هشاشته، يذوب كبرياؤه، ويدرك أن ما نعتقده استحقاقًا في الحياة هو في حقيقته منحة. ذلك الوقوف لا يمثّل فقط ذروة المناسك، بل ذروة الإدراك. هناك، حيث لا ظلّ إلا ظلّ التوبة، ولا صوت إلا صوت المناجاة، يعيد الإنسان بناء علاقته مع الزمن، مع الوجود، مع الله، ومع نفسه. إنّه زمن بلا غرور، ومكان بلا امتياز، ودعاء بلا وسائط. الكل سواسية، عراة من المجاز، مغمورون في المعنى، كما وصفتهم المقولة المنسوبة للإمام الغزالي: “من لم يُغسِل قلبه بعرفة، فلن يُنقّيه زمزم”.

الحج يعيد تعريف الإنسان لذاته، بعيدًا عن وهم السيطرة والهيمنة. ففي تلك التجربة، يُطلب منك أن تسير، أن تنتظر، أن تصبر، أن تزاحم، أن تُخطئ وتتعلم. لا مكان للغرور في الزحام، ولا معنى للتعالي وأنت ترمي حجرك كرمز للرفض والبراءة. في كل ركن من أركان الحج دعوة لقتل فرعون النفس، لتصفية ميراث الأنانية، لإعادة كتابة الذات بخط اليد لا بخط التاريخ المفروض. هناك، تسمع في داخلك صدى قول الله: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21].

الزمان في الحج ليس زمان تقويم، بل هو زمان داخلي، يمتد ويتقلص وفقاً لمقدار صدق التوبة وحرارة الشوق. والمكان ليس مساحة هندسية تُقاس بالأمتار، بل فضاء رمزي تتحرك فيه الأرواح بحثاً عن الأصل، عن الحقيقة، عن النور الأول. الكعبة ليست بناءً من حجر، بل نواةٌ للمعنى، مركزٌ يدور حوله العالم الرمزي للمسلم، ويدور فيه الإنسان حول ذاته، كما لو كان في مدار كشف جديد. كما يقول ابن عطاء الله السكندري: “السير إلى الله ليس بالمسافات، ولكن بخلع التعلقات”.
ولعل من أعظم دروس الحج أن الحقيقة لا تُدرك إلا بالسير إليها، وأن القرب لا يُنال بالجدل بل بالذوبان. الحج يُعلّمك أن الطريق إلى الله ليس استعراضًا معرفيًا، ولا تنظيرًا فلسفيًا، بل خضوعًا وصدقًا وتجردًا. فيه ينهار العقل أمام الدمع، ويسكت المنطق أمام الحب، وتنتصر البصيرة على الحسابات الدقيقة. إن من لا يتأثر بالحج، لم يدخل فعلاً في الرحلة، بل مرّ بها كعابر سبيل لم يدرك أن العالم من حوله قد تغير، لأنه هو ذاته لم يتغير.

أما أنا، فقد عدت من تلك الرحلة ولم أعد كما كنت. هناك شيء مني بقي في ذلك العراء، بين عرفات والمزدلفة، في ظلال الكعبة، على جمرات من حجر، وربما في سطر من دعاء لم أتمه. ومنذ ذلك اليوم، صرت أُدرك أن الحج لا ينتهي حين تغادر مكة، بل يبدأ حين تعود إلى الحياة ومعك درسٌ خفيّ: أن الإنسان ليس مجرد فرد في صراع البقاء، بل روح تبحث عن أصلها، عن نورها، عن الله. وأن الطريق إليه، كما جاء في كتابه: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145].

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق