لم يعد السباب اليوم كما كان في الأزقة؛ صوتًا غليظًا، أو شتيمةً فجة. لقد تأنق، تعلّم المفردات، دخل الجامعات، لبس لغة نيتشه، وسكن سطور تويتر وفيسبوك بلباس بلاغي محبوك. السباب الآن يكتب مقالات، يُحلل في فيديوهات، ويُشارك صور كتبه كما يشارك المغرورون صور رحلاتهم… لكنه يظل سبابًا، وإن نطق شعرًا.
يخدع البعض أنفسهم حين يظنون أن تنميق الإهانة يجعلها رأيًا، أو أن تطريز القذف بأسماء فلاسفة يرفعه إلى مقام النقد. لا، البلاغة التي تجرح لا تعالج، والفصاحة التي تُهين لا تنير. هناك فرق جوهري بين النقد الذي يفتح أبواب الفهم، والسباب الذي يُحكم إغلاقها.
في هذا المناخ، يصبح الجمهور جزءًا من المعادلة. لماذا يُطبع الناس مع السباب؟ لماذا تنتشر منشورات الهجوم أكثر من منشورات التأمل؟ لأن الغضب معدٍ، لأن الاستعراض يسحر، ولأن منصات التواصل تكافئ من يصرخ أكثر ممن يفكر. صار التفاعل معيارًا للحقيقة، وكأن الكثرة تُبرر القسوة.
هكذا يختلط النقد بالعدوان، وتضيع النوايا. صار من المعتاد أن يبدأ البعض مقالاتهم بعبارات فلسفية، لينتهوا بقذف مباشر. أن يطلبوا الاحترام وهم ينثرون الإهانات. أن يكتبوا باسم “الحرية”، وهم في حقيقتهم عبيد لانفعالاتهم.
والمفارقة أن هؤلاء، حين يُنتقدون، يرفعون راية المظلومية. يصبحون فجأة ضحايا، يتحدثون عن قمع الآراء، وهم أنفسهم لا يسمحون برأي يخالفهم دون أن يُكفّروه أخلاقيًا أو يُشوهوا قائله إنسانيًا.
قال النبي ﷺ: “ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ، ولا اللَّعَّانِ، ولا الفاحشِ، ولا البذيءِ” [رواه الترمذي].
فكيف بمن جمع الأوصاف الأربعة، ثم سمّى نفسه “ناقدًا”؟ وكيف بمن استباح أعراض الآخرين بحروف ناعمة، ثم ظن أنه صاحب رسالة؟
هذا الزمن محتاج إلى شيء أندر من البلاغة: إلى الطهارة. إلى أن يُقال الشيء بلا مسّ للكرامة. إلى أن نُعيد للكلمة معناها، لا أن نستخدمها قناعًا لهشاشتنا. فلا المعجم يطهّر النية، ولا الفصاحة تعفي من الحساب.
البلاغة، حين تفقد ضميرها، تصير سكينًا مزخرفًا.
والسوشيال ميديا، حين تصير مسرحًا للشتائم المُنمقة، تفقد قدرتها على بناء وعي جماعي.
نحن بحاجة إلى أخلاق تُرافق الفكر،
وإلى صمت يُرافق القوة،
وإلى نقد يُرافق الرحمة.
لأن ما نراه اليوم ليس نقدًا…
إنه بلاغة السباب.
0 تعليق