رواية "الابنة الأخيرة" للكاتبة فاطمة داس .. رغبة مؤجلة وهوية معلَّقة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين تُروى الحيرة بضمير المتكلم

مساء الأربعاء الحادي والعشرين من ماي، جلستُ كعادتي أمام شاشة التلفزة أتابع برنامجي الثقافي المحبب على إحدى القنوات الفرنسية، موعد لا أخلفه كلما شاء القدر ذلك، حيث تلتقي الكلمة بالصورة وتنبض الكتب على لسان أصحابها. كانت الحلقة هذه المرة ضيفتها الكاتبة فاطمة داس Fatima DAAS، الفرنسية ذات الأصول الجزائرية، حضرت لتقديم روايتها “الابنة الأخيرة La Petite Dernière”. لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها عن فاطمة داس، لكن شيئًا في حديثها تلك الليلة، مزيج من الصفاء والجرح، أيقظ في داخلي رغبة حقيقية في قراءة الرواية. وصادف أنني كنت حينها بباريس، تلك المدينة التي لا تزال الكتب تتنفس فيها في كل زاوية، وما إن انتهى البرنامج حتى شعرت برغبة ملحّة تشبه الوعد، وعد القراءة لا أكثر. في صباح اليوم الموالي، حملتني خطاي إلى مكتبة صغيرة أعرفها في الحي اللاتيني، حيث تصطف الكتب كأنها وجوه تنتظر من يصغي إليها. هناك، وجدت الرواية تستقر في واجهة العرض، بعناية لا تخلو من الفخر. اقتنيتها كما يُقتنى سرّ قديم، بشغف من يطوي المسافة بين الكاتبة وصفحاتها.

جلست بعدها في مقهى على ضفاف السين، أحتسي قهوتي ببطء، فتحت الرواية وبدأت القراءة. لم أتوغل كثيرًا في القراءة، اكتفيت بصفحات معدودات، لكن تلك الصفحات الأولى كانت كافية لتفتح داخلي نوافذ لم تكن مغلقة تمامًا، بل مغطاة فقط بغبار النسيان. وجدتني أعود بأسئلتي إلى الواجهة: ما الذي يجعل كاتبة تنقّب في الذاكرة بهذه الرهافة؟ وكيف يتسرّب الشعور بالانتماء المزدوج بين السطور دون أن يُعلن عن نفسه؟ ومن أين يأتي ذلك الصوت الذي يبدو مألوفًا رغم الغربة؟ كل تلك الأسئلة لم تكن محاولة للفهم بقدر ما كانت رغبة في الإصغاء. وهكذا، وجدتني أكتب هذا الحديث، لا تلخيصًا لما قرأت، بل امتدادًا لما أثارته قراءة تلك الصفحات المعدودة في داخلي.

رغبة مؤجلة وهوية معلَّقة

حين تفتح رواية “الفتاة الأخيرة” لفاطمة داس تشعر للحظة أنك دخلت عن طريق الخطأ إلى جلسة علاج نفسي جماعي تُعقد في محطة ميترو مهجورة، في حي شعبي تغلفه الضبابية الثقافية، والهوية الممزقة، وعبارات الاعتراف المتقطعة.

تبدأ الرواية بجملة: “اسمي فاطمة داس”، وهي ليست جملة افتتاحية عابرة، وإنما لازمة متكررة، كأن الكاتبة تحتاج إلى تذكير نفسها – وتذكيرنا نحن القرّاء – بهويتها في كل فقرة، بل في كل تنهيدة أدبية: “اسمي فاطمة داس”، “اسمي فاطمة داس”، “اسمي فاطمة داس”، حتى نبدأ نحن بالهذيان، ونردد في ذواتنا: نعم، نعلم، والله نعلم، عرفناك منذ الصفحة الأولى، فماذا بعد؟

على أن ما يأتي بعد ذلك ليس رواية، ولا حتى شبه رواية. بل هو دفتر خواطر مفتوح على مصراعيه، تسكبه كاتبة شابة قررت أن كل لحظة عابرة في حياتها، من نوع السعال في الصف الدراسي أو التحديق في السقف أثناء صلاة العشاء، هي مادة أدبية ذات بعد فلسفي وجودي يستحق التدوين. لا حبكة تُذكر، ولا نموّ شخصيات، فقط سلسلة من الاعترافات، تسردُ بأسلوب ثقيل ومُملّ على حافة المونولوج الداخلي، كأن الكاتبة تتوسل من القارئ أن يصبر، لا لأنها ستمنحه قصة بديعة واستثنائية، وإنما فقط لأنه إنساني بما يكفي ليكمل حتى النهاية.

فاطمة داس، كما تقدم نفسها، ليست مجرد فتاة عادية. إنها التجسيد الأدبي المعاصر لكل تناقض ممكن في الهوية: فتاة مسلمة، فرنسية، جزائرية، مثلية، محافظة ومتديّنة، علمانية بالأسلوب، متصوفة بالميل، تعاني من الرَّبو العاطفي كلما تقول الـ”أنا”. تعيش في الضواحي، لكنها تفكر كأنها في قاعة محاضرات بالسوربون. تصلّي، ثم تحب فتاة. تخشى الله، ثم تتحدث عن رغباتها الجسدية. لا تدري أين تقف، ولا تريد أن تعرف، لأنها وجدت متعة مازوشية في التمزق الداخلي، وتمزيق القارئ معها. هذه ليست شخصية، بل فسيفساء من القلق العصابي، خُلطت في خلاط وجودي، ثم سُكبت مباشرة على الورق.

صوت يتلعثم في لغة الآخر

اللغة في هذه الرواية بسيطة إلى حد مُذهل، أشبه بتغريدات طويلة هربت من تويتر مباشرة لدار النشر. الجمل قصيرة، مقصوصة كأنها كُتبت خلال نوبات ضيق تنفسي، أو جلسات تأمل بين ضجيج الضواحي. “أنا خائفة”، “أمي لا تعرف”، “الله يعرف”، “أنا أحب”، “أنا مذنبة”، “أنا أختنق”. هذا ليس أسلوبًا سرديًا، بل موجز أخبار عاطفية عاجلة تبثّ من القلب مباشرة إلى الورق، دون المرور بأي محرّر داخلي.

ومع غياب الحبكة، يتساءل القارئ بعد خمسين صفحة: لماذا أقرأ هذه الرواية؟ ما الغاية؟ لا قصة حب ناضجة، لا صراع واضح، لا رحلة تحوّل درامي، فقط شعور مزمن بالاختناق الوجودي، واللايقين الهوياتي، وصدمة ثقافية داخلية لا تبحث عن مخرج، وإنما تتلذذ بالبقاء داخل المتاهة. كل ما يحدث هو أن فاطمة داس تحكي، ثم تحكي، ثم تحكي أكثر، كأنها تخشى الصمت، أو تخشى أن تكون لحظة واحدة خالية من الكلمات كافية لانكشاف هشاشتها النفسية.

وإذا كنتَ تنتظرُ نهاية، فأنت مثالي أكثر من اللازم. فلا شيء ينتهي. لا ذروة، ولا هبوط. فقط المزيد من التكرار، وكأن الرواية بُنيت على فكرة أن الحياة ليست قصة، وإنما سلسلة من الاعترافات المُعطّلة. بعد القراءة، تشعر وكأنك قضيت زمنًا داخل متاهة من الأفكار تدور حول فتاة لا ترى في العالم سوى مرآة لذاتها.

قارئي العزيز؛ لا أقول إن رواية فاطمة داس سيئة بالمعنى التقني، لكنها، في تقديري الخاص، تجربة تقترب من الشعور بالتيه: لا تُقنعك، ولا تزعجك، بيد أنها تتركك معلقًا في منتصف لا شيء، متسائلًا: هل هذا هو الأدب الجديد؟ أن يكتب كل واحد معاناته، فقط لأنها حدثت له، ثم ينتظر أن يُصفّق له العالم؟ هل المطلوب أن ننبهر لأن صاحبه يعاني بطرق مختلفة عن الآخرين؟

ليست “الفتاة الأخيرة” رواية؛ إنها وثيقة إثبات وجود أدبي لهوية مشتتة، تبحث عن اعتراف، لا عن قارئ.

كتابة الذات في مهب “التمثيل”

علمت من خلال البرنامج الثقافي التلفزيوني أن رواية “الفتاة الأخيرة” لفاطمة داس تمّ تحويلها بسرعة مثيرة إلى فيلم سينمائي؛ وهذه واقعة ليستْ ملفتة للنظر، بل تكاد تكون عرضًا دالًا على التحولات التي يعرفها المشهد الثقافي الغربي اليوم، حيث لا تُقرأ الأعمال الأدبية في بعدها الجمالي أو السردي فقط، بقدر ما يُعاد تأويلها ضمن أفق أوسع تتداخل فيه الاعتبارات الرمزية، والهوياتية، والتسويقية، وحتى السياسية.

الرواية، في جوهرها، عمل أدبي صادق وحميم، تكتب من خلاله فاطمة داس ذاتَها بلُغة فرنسية حذرة، مترددة أحيانًا، ومحمّلة بثقل مزدوج: ثقل الهوية الدينية من جهة، وثقل الميول الجنسية المقموعة من جهة أخرى. نجاح الرواية لا يُنكر، لكن لا شيء في مسار الرواية وحده كان يبرّر هذه السرعة في تحويلها إلى فيلم، لولا أن المنظومة الثقافية الحالية باتت تشتغل وفق منطق انتقائي جديد: الأدب الذي يوفّر سردية “التمثيل” يحظى بامتياز المرور السريع إلى السينما.

فلنأخذ المعطيات التي كشفتها التغطيات الصحافية: رواية أولى، صدرت عام 2020، حظيت باهتمام نقدي لافت، وتم اقتراحها في قوائم عدة جوائز. المخرجة حفيظة حرزي، بادرت بسرعة إلى اقتباسها؛ شركات الإنتاج لم تتأخر في التمويل.

لكن علينا أن نطرح السؤال المقلق: هل كان هذا التحول السريع إلى الشاشة نتاج اعتراف بالقيمة الجمالية للنص، أم بسبب ما يحمله من “محتوى تمثيليّ”؟ لا تُقدَّم فاطمة داس اليوم باعتبارها كاتبة فحسب، بل بوصفها صوتا نسويا، مسلما، من الضواحي، يحمل خصائص “الهوية الهجينة” التي يتعطش لها الخطاب الثقافي الغربي؛ وهذه مواصفات تجعل من عملها قابلاً للتسويق، وقابلاً للتأويل، وقابلاً قبل كل شيء للإدماج في منظومة “الاعتراف المؤسسي”.

لذلك يعرض الفيلم في مهرجان “كان”، ويعرف المهتمون به والمتابعون لشؤونه أنه ليس مجرد منصة للعرض الفني، بقدر ما هو مهرجان كبير لتوجيه الذوق السينمائي والسياسي معًا. وعندما يُعرض فيلم مقتبس عن رواية بهذه السرعة، ضمن هذا المهرجان العالمي، فإن الأمر يتجاوز البعد الفني ليتحول إلى رسالة تقول: نحن نمنح الصوت لـ”الآخَر الجديد”، نحتفي بالهويات المزدوجة، نُشرك المهمشين، نُعيد كتابة السرديات الممنوعة، لكن… بشرط أن تُروى بلغتنا، وفق إيقاعنا، وبكاميراتنا.

من هذا المنظور يمكن القول إن الرواية، برغم صدقها، قد وُضعت في قلب آلة ثقافية أكبر منها، ماكينة لا تترك للزمن حقه، وإنما تسارع إلى الالتقاط والتوظيف وإعادة التدوير. كل شيء أصبح قابلاً لأن يتحول إلى سينما إذا ما وُفق في حمل الرسالة المطلوبة.

ما الذي يحدث للنص حين يُنتزع من سياقه التأملي ويُقذف إلى الشاشة؟ هل يُربح جمهورًا جديدًا، أم يُختزل في رمزية تمثيلية عابرة؟ وهل حقًا نمنح الصوت لمن لا صوت لهم، أم أننا نُعيد إنتاج صمتهم، ولكن بلغة مقبولة ومُقنَّنة؟

في حلقة البرنامج الثقافي، ظهرت الكاتبة ليلى السليماني، بوصفها عضوة في لجنة تحكيم مهرجان “كان” لهذا العام، لتُبدي إعجابها برواية “الفتاة الأخيرة “، لكنها لم تبح بما ينتظر من قارئة راكمت حسًّا أدبيًا لافتا للنظر؛ بدت كلماتها مختارة بعناية، مشدودة بخيط رفيع من الحذر، كأنها تخاطب الرواية من خلف ستار حرَج لا يليق بامرأة اعتادت خوض المحظور بشجاعة. فلم تتوقف عند جُرأة النص، ولا عند أسئلته المرتبكة حول الهوية والرغبة والإيمان، بل راحت تدور في فلك قضايا عامة، مكرورة، تُسقط الخصوصية في عمومية خطابية شاحبة. ولعلها كانت واعية بأن الفيلم المقتبس عن الرواية يعرض في المسابقة الرسمية، وأنها بوصفها عضوة في لجنة التحكيم فرض عليها اتزانًا يحجب عنها فورة القارئة. ولذلك بدا حضورها مقنَّنًا، مضبوطًا بنظام الكلام لا بحرّيته. وكأننا أمام مفارقة مؤلمة: أن تكون قارئًا معنيًّا بالنص، ومحبًّا له، ثم تضطر إلى خيانته بلطف حين تفرض السياقات عليك صمتًا لا يشبهك.

ولكن، ماذا لو كان الصمت هو الشكل الأقصى للقراءة؟ ماذا لو كانت خيانة النص، في لحظة بعينها، هي الطريقة الوحيدة لإنقاذه من ابتذال التأويل؟ وهل يمكن أن نحب نصًّا إلى حدّ التراجع عن قوله، كي لا نفضح توتّره بين المعنى وظلاله؟ ألسنا، في النهاية، نكتب لنُفلت من الصمت، ثم نصمت لنحمي ما كتبناه من الضياع؟ من يضمن أن الكلام كان سيكون أوفى للنص من الصمت؟ أليس من الممكن أن يكون أجمل ما في القراءة هو ما لم يُقل، وما لم يُكتب، وما ظلّ معلقًا بين الرغبة في الإفصاح والخشية من التبسيط؟ وهل نحن، حين نصمت، نخون النص فعلًا… أم نمنحه فرصة أخيرة ليحافظ على غموضه الساحر؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق