احتضنت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط فعاليات الملتقى العربي الأول للمكتبات الوطنية، المنعقد تحت شعار: “الذكاء الاصطناعي في خدمة المكتبات والتراث الوثائقي”. وقد تميّز هذا الحدث الثقافي بحضور ممثلين عن 16 دولة عربية، إلى جانب وفود عن منظمات إقليمية ودولية، من بينها الألكسو واليونسكو، في تجسيد رمزي للدينامية المتنامية التي تعرفها تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال صيانة الذاكرة الوثائقية وتعزيز كفاءة خدمات المكتبات الوطنية.
افتُتحت فعاليات هذا اللقاء بكلمة ترحيبية ألقتها سميرة المليزي، مديرة المكتبة الوطنية، تلتها مداخلات افتتاحية لكل من محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، والدكتور محمد ولد أعمر، المدير العام للألكسو، ثم إيريك فالت، مدير مكتب اليونسكو لمنطقة المغرب العربي. وقد أجمع المتدخلون على ضرورة تكثيف التعاون العربي في مجال رقمنة التراث وتطوير البنيات التحتية للمكتبات، مع التأكيد على أهمية استيعاب تحديات الرقمنة عبر استراتيجيات مبتكرة تستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وأوصى المشاركون في الملتقى بإحداث منصة رقمية عربية موحدة تُعنى بتوثيق ورقمنة المخطوطات والوثائق التاريخية، تُدار في إطار تشاركي بين الدول الأعضاء، مع مراعاة الخصوصيات الوطنية واحترام المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال، بهدف صون الذاكرة الجماعية وتعزيز حضور التراث العربي في الفضاء الرقمي العالمي.
ومن أبرز المخرجات العملية التي انبثقت عن اللقاء، الاتفاق على تأسيس لجنة تنسيقية دائمة تُعنى بالمكتبات الوطنية العربية، تتولى تتبع تنفيذ التوصيات، والإشراف على تنظيم دورات تكوينية منتظمة، بالإضافة إلى إعداد دراسات استراتيجية متخصصة في إدماج الذكاء الاصطناعي في تدبير الموارد الوثائقية. كما تم الاتفاق على تنظيم النسخة الثانية من الملتقى سنة 2026، بدولة عربية تُحدد لاحقًا، لاستكمال الدينامية التي أطلقتها هذه الدورة.
ويُعد هذا الملتقى سابقة نوعية في مسار التعاون العربي في مجال المكتبات الوطنية، سواء من حيث طبيعة المواضيع التي طُرحت للنقاش، أو من حيث قوة الحضور ونوعية المخرجات، ما يعكس وعيًا مشتركًا بأهمية التحديث الرقمي للذاكرة الوثائقية، ويؤكد السعي إلى جعل الذكاء الاصطناعي أداة استراتيجية لتعزيز دور المكتبات في حفظ الهوية الثقافية ونشر المعرفة.
وقد شكلت هذه التظاهرة الثقافية والعلمية فرصة ثمينة لتعميق النقاش حول سبل مواءمة التقدم التكنولوجي مع الخصوصيات الثقافية للمجتمعات العربية، من خلال اعتماد الذكاء الاصطناعي أداة للتثمين وليس للاستبدال، وضمان ألا يتحول هذا التطور إلى تهديد للهوية أو تجاوز لخصوصيات الوثائق والمخطوطات ذات الطابع التراثي والروحي.
كما أبرز الملتقى الحاجة الملحة إلى بلورة سياسة عربية موحدة في مجال إدارة البيانات الوثائقية، ترتكز على مبادئ الشفافية، والمعايير الدولية في الأرشفة، والتبادل المنظم للمحتوى الرقمي، بما يضمن الاستدامة المؤسساتية ويعزز مكانة المكتبات الوطنية كفاعل مركزي في المشهد الثقافي والمعرفي العربي.
وبهذا، رسخ ملتقى الرباط نفسه كمنصة تأسيسية لمشروع ثقافي وتوثيقي عربي طموح، يرمي إلى توحيد الجهود، وبناء جسور التعاون بين مؤسسات الذاكرة في العالم العربي، وتحقيق نقلة نوعية في كيفية التعاطي مع الذكاء الاصطناعي كحليف في حفظ التراث، لا كعامل تهديد له.
تجدر الإشارة إلى أن نجاح هذه الدورة الأولى يعود، إلى حد بعيد، إلى التنسيق المحكم بين المكتبة الوطنية للمملكة المغربية وشركائها من المنظمات الإقليمية والدولية، وكذلك إلى جودة التنظيم، وتنوع المداخلات، وحيوية النقاشات التي أغنت محاور الملتقى، مما جعل من الرباط فضاءً للحوار والتفكير الجماعي في مستقبل المكتبات العربية في عصر الذكاء الاصطناعي.
وقد أشادت الوفود المشاركة بحسن الضيافة المغربية، وبالدور الريادي الذي تلعبه المملكة في مجال صيانة التراث الوثائقي ورقمنته، داعية إلى مواصلة العمل المشترك لترسيخ مكانة المكتبات الوطنية كحصون للذاكرة، وقلاع للمعرفة الحرة، ومختبرات لإبداع حلول تكنولوجية ملائمة للبيئة الثقافية العربية.
وفي ختام أشغاله، ترك ملتقى “الذكاء الاصطناعي في خدمة المكتبات والتراث الوثائقي” انطباعًا قويًا لدى المشاركين، باعتباره محطة مفصلية في مسار تحديث العمل الوثائقي العربي، ورهانًا على الذكاء الاصطناعي ليس فقط كأداة تقنية، بل كرافعة فكرية وثقافية لبناء مستقبل وثائقي مشترك ومستنير.
0 تعليق