حديث البنادق

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا تعدّ الحروب في جوهرها، صراعًا بين جيوش، ولا بين راياتٍ وأعلام.

ليست فصلًا من التاريخ العسكري، ولا درسًا في الجغرافيا المتفجّرة.

الحرب، حين تُسقط أقنعتها، ليست سوى انهيار صامت في أعماق الإنسان.

إنها اللحظة التي يُطفئ فيها العقل نورَه، ويتقدّم الغضب متنكّرًا في هيئة الشرف، أو الهوية، أو العدالة.

الحروب لا تبدأ حين يُطلق الرصاص، بل حين يصمت الضمير.

حين يتوقف الإنسان عن الإصغاء، وتصبح القوة هي اللغة الوحيدة الممكنة.

الشر لا يهبط من السماء، بل يصعد من كهوف النفس حين تفقد بوصلتها.

ولهذا، كل حرب هي، في الأصل، فشل داخلي… فشل في الفهم، في التواصل، في الاحتكام إلى ما بقي من إنسان في الإنسان.

تبدأ الحرب بوعد، وتنتهي بندم لا يُصرّح باسمه.

تبدأ بنشيد، وتنتهي بصمتٍ على مقبرة جماعية.

تُخاض لا حين تنتصر العدالة، بل حين تفشل.

قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الإسراء: 33]

لكن من يشعل الحرب لا يسأل عن الحق، بل عن الغلبة، عن الهيبة، عن “الضرورة” التي تبرّر الدم.

ويُقتل الإنسان، لا لأنه مذنب، بل لأنه في “الضفة الأخرى”.

يُسفك الدم باسم الأرض، وتُشرّد العائلات باسم الكرامة، وتُجفّف الدموع على طاولة المفاوضات الباردة.

قال النبي ﷺ: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه.”

لكن في الحرب، يُنسى الدين، وتُنسى الرحم، وتُنسى الرحمة.

ويغدو المسلم عدوًا، والجار هدفًا، والطفل مجرد “أثر جانبي” لضربة جوية “ذكية”.

الحرب لا تصنع أبطالًا، بل تصنع مقابر.

الجندي الذي يعود لا يعود كما ذهب.

يعود بعينين لا تنام، بكلمات لا تُقال، بذنبٍ لا ينطفئ.

والطفل الذي ينشأ في ظلّها، لا يعرف من الطفولة إلا لحن الانفجارات.

فكيف له أن يفهم معنى الحياة، وقد تربى على إيقاع الموت؟

السلام لا يحتاج إلى سلاح، بل إلى شجاعة أرقى من كل ترسانة.

أن تقول “لا” حين يصفّق الجميع، أن ترفض الكراهية حين تُصبح العملة الرسمية، أن تحبّ الإنسان قبل الأرض.

فالعاقل لا تفتنه أصوات المدافع، ولا تغويه الأعلام إن كانت مغموسة في الدم.

الذين يشعلون الحروب من مكاتبهم لا يسمعون صراخ الأمهات.

والذين يبيعون خطاب المواجهة لا يعيشون تحت السقف المنهار.

من السهل أن تموت من أجل الأرض،

لكن من الشجاعة أن تحيا من أجل الإنسان، ولو كان من أعدائك.

النار تعرف طريقها دائمًا.

أما السلام… فهو يحتاج إلى من يبحث عنه.

يحتاج إلى من يُعيد اكتشاف البصيرة، حين يُضاء فتيل العمى الجماعي.

فكلما صدّقنا أن القتل ضرورة، ماتت فينا الضرورة الأولى: أن نكون بشرًا.

إن الشر لا يُكافح بشرٍ أفدح، بل ببصيرة أهدأ، وأصدق، وأقرب إلى الضوء.

فلنُعِد تعريف البطولة.

ربما كانت البطولة في من يزرع شجرة وسط الركام،

في من يرفض أن يكره حين يُؤمر بذلك،

في من يفتح بابًا للسلام وسط جدار الكراهية.

حديث البنادق ليس صوت القوة، بل صدى غيابنا عن إنسانيتنا.

والسلام، حين يُستعاد، لا يُعلن بانسحاب الجيوش، بل بانبعاث الإنسان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق