لقد كان من المرتقب أن تشهد أسعار الأضاحي هذه السنة ارتفاعا قياسيا نتيجة عوامل متعددة، أبرزها ندرة العرض بسبب تأثيرات الجفاف المتتالية، وارتفاع أسعار الأعلاف في الأسواق العالمية، فضلا عن المضاربة والاحتكار اللذين يرافقان موسم العيد سنويا. هذه الظروف مجتمعة كانت كفيلة بجعل مناسبة دينية ذات طابع تضامني تتحول إلى عبء اقتصادي ونفسي، لا سيما بالنسبة للفئات الهشة والمناطق القروية التي تجد في هذه المناسبة عبئا يتجاوز إمكانياتها.
في هذا السياق، جاء القرار الملكي ليضع حدا لمسار تصاعدي كان يُنذر باحتقان اجتماعي واسع النطاق؛ إذ إن التكاليف المرتفعة لاقتناء الأضحية كانت ستدفع آلاف الأسر إلى الاقتراض أو التنازل عن ضروريات الحياة لتأمين شعيرة العيد، ما كان سيخلّف حالة من التذمر العام وربما احتجاجات صامتة في عدد من المناطق. من ثمّ، اتخذ القرار طابعا وقائيا، يقي البلاد من انفجار اجتماعي محتمل، ويمنح المواطنين فرصة لإعادة ترتيب أولوياتهم المالية في زمن الأزمات.
وقد عبّر العديد من الفاعلين والخبراء عن تقديرهم للقرار، باعتباره يجسّد مقاربة استباقية تنبع من فهم عميق لتوازنات المجتمع المغربي، وتراعي السياق الدولي المضطرب الذي يشهد اضطرابات في سلاسل التوريد وارتفاعا متزايدا في أسعار المواد الأساسية. كما رأى متابعون أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول ضرورة عقلنة الطقوس الاستهلاكية، وترسيخ قيم التضامن الحقيقي بدل المجازفة المالية، خاصة في ظل التحولات المناخية والاقتصادية التي تعيد تشكيل أولويات الأفراد والدولة على حد سواء.
وفي هذا السياق، صرّح الخبير الاقتصادي خالد أشيبان بأن القرار الملكي بإلغاء شعيرة النحر في عيد الأضحى جاء استباقيا ويعكس حسا سياديا عاليا بمآل الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المملكة، موضحا أن مثل هذه القرارات لا تُتخذ إلا استنادا إلى دراسات دقيقة ومؤشرات واقعية تستشرف ما قد تؤول إليه الأوضاع.
وأضاف أشيبان، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن المغرب كان مهددا، لولا هذا القرار، بالدخول في أزمة خانقة نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار اللحوم، التي بلغت مستويات غير مسبوقة بفعل الجفاف وندرة العرض، وكذا استغلال المضاربين للظرفية لتحقيق أرباح غير مشروعة.
وأكّد المتحدث لهسبريس أن ما شهدته الأسواق من غلاء حاد كان من الممكن أن يتفاقم أكثر لو لم يتم إلغاء شعيرة العيد، ما كان سيُحدث ارتباكا اجتماعيا كبيرا ويدفع العديد من الأسر إلى الاقتراض أو المساس بحاجياتها الأساسية. كما نبه إلى أن الأمن الغذائي الوطني، وخاصة ما يتعلق بإعادة بناء القطيع، كان مهددا بشكل واضح. ورغم القرار الملكي، شدد أشيبان على ضرورة مواصلة العمل الجاد والمسؤول على إصلاح سلسلة الإنتاج الحيواني، متوقعا أن تشهد أسعار اللحوم انخفاضا ملحوظا في الأسابيع المقبلة إذا تم ضبط السوق وضمان تدفق العرض.
واعتبرت الباحثة السوسيولوجية نادية الكتاني أن قرار إلغاء شعيرة النحر يعكس نضجا في الوعي الجماعي، ويُعيد الاعتبار لفكرة التضامن باعتبارها جوهر العيد، بدل حصره في مظاهر الاستهلاك المبالغ فيها.
وأضافت الكتاني، ضمن تصريح لهسبريس، أن القرار لم يُربك المنظومة الرمزية للمغاربة بقدر ما أعاد ضبطها وفق مقتضيات الأزمة، معتبرة أن التفاعل الواسع والإيجابي الذي لقيه القرار من مختلف الفئات يُثبت أن المجتمع المغربي بات أكثر استعدادا لتقبّل القرارات الاستثنائية حين تكون مسنودة بشرعية أخلاقية وحس وطني عالٍ.
وأكدت أن السياق الصعب الذي تمر به البلاد قد يُعيد تشكيل الكثير من العادات الاجتماعية، ويطرح بإلحاح أسئلة من قبيل: ما الذي يجب أن يبقى؟ وما الذي ينبغي مراجعته؟، مشددة على أن هذه اللحظة تتطلب توازنا بين الوفاء للهوية والانفتاح على منطق الضرورة.
كما شددت نادية الكتاني على أن التحولات التي تشهدها المناسبات الدينية لم تعد محصورة في بعدها الطقوسي، بل أصبحت مرآة تعكس طبيعة البنية الاجتماعية ومستوى التأقلم مع المتغيرات. وأشارت إلى أن تجاوب المغاربة مع القرار يكشف عن انتقال تدريجي نحو نمط من التدين العقلاني، الذي يُراعي الواقع ولا يتشبث بالمظاهر على حساب الكرامة المعيشية.
وأضافت الباحثة السوسيولوجية أن مثل هذه القرارات تُعيد للمجتمع لحظة تأمل جماعية في أولوياته، وتكسر منطق التلقائية الموسمية التي تحوّل الأعياد إلى سباق استهلاكي محموم. واعتبرت أن تفاعل الأسر المغربية، خصوصا في الأوساط المتوسطة والفقيرة، قد يكون مؤشرا على بداية وعي جماعي بضرورة تبنّي نمط عيش أكثر توازنا، يُقدّر القيم الرمزية دون التفريط في ضروريات العيش الكريم.
0 تعليق