زحف ناعم وسط مجتمعات مفتوحة.. السويد تدفع ثمن التسامح المفرط مع الجماعة الإرهابية

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى السنوات الأخيرة، تحوّلت أوروبا من ساحة لاحتضان الأقليات الدينية والثقافية، إلى ساحة مواجهة فكرية وأمنية مع جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. هذا التحوّل لم يكن مفاجئًا لمن تابع تطوّر نشاط الجماعة فى القارة العجوز؛ إذ أن الإخوان استغلوا مناخ الحريات والتعددية لتوسيع نفوذهم بهدوء، مستخدمين أدوات قانونية ومجتمعية لتأسيس بنى موازية داخل الدول الأوروبية، فى مشهد يعيد إنتاج نموذج "الدولة داخل الدولة" بأساليب ناعمة.
لكن ما كان خفيًا بدأ يطفو على السطح، مع صدور تقارير رسمية أوروبية – من باريس إلى ستوكهولم – تُحذّر من تغلغل تنظيم الإخوان فى المؤسسات الثقافية والاجتماعية والبحثية والتعليمية، مستغلًا ما يُعرف بجمعيات الاندماج والمراكز الإسلامية. هذه التحذيرات تعكس قلقًا متزايدًا من قدرة الجماعة على التحايل على الأنظمة الديمقراطية واختراق المجتمعات باسم التعددية. وتكمن الخطورة هنا فى أن المشروع الإخوانى لا يهدف إلى الاندماج الحقيقي، بل إلى فرض مرجعية دينية ذات طابع سياسي، مناهضة لمفاهيم المواطنة الليبرالية.
فى هذا السياق، لعب مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس "CEMO" بقيادة الخبير فى شؤون الإسلام السياسى عبد الرحيم علي، دورًا حيويًا فى تعرية هذه المخططات وكشف الأذرع غير المعلنة للجماعة فى أوروبا، عبر تقارير استقصائية وتحليلات موثقة اعتمدت على مصادر متعددة، وربطت بين ما يُطرح فى العلن وما يُحاك فى الخفاء. 
وتتناول هذه الورقة تحليلًا تفصيليًا للتجربة السويدية فى التعامل مع تنظيم الإخوان، كنموذج صارخ لكيفية استغلال الجماعة لهامش الحرية لتأسيس نفوذ غير مرئى لكنه مؤثر، ويهدد تماسك الدولة والمجتمع على حد سواء.

التقرير الفرنسي

تحوّل تقرير رسمى صادر عن وزارة الداخلية الفرنسية، نُشر فى ٢١ مايو ٢٠٢٥، إلى حجر ألقى فى بركة السياسة السويدية، حين خصّص تحليلاً موسعًا لتغلغل جماعة الإخوان المسلمين فى عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها السويد. هذا التقرير، الذى حمل عنوان «الإخوان المسلمون والإسلام السياسى فى فرنسا»، تجاوز حدود الدولة الفرنسية ليقدم توصيفًا مقلقًا عن امتداد الجماعة فى الفضاء الأوروبي، لا سيما فى أنظمة ذات بنية ليبرالية متساهلة مثل السويد.
ورغم أن عدد المنتمين أو المتعاطفين مع الجماعة فى السويد لا يُعدّ كبيرًا من حيث الكم، إلا أن التقرير شدد على أن "فرع جماعة الإخوان فى السويد يتمتع بتأثير سياسى واجتماعى يفوق حجمه العددي"، وهو تأثير يعود – بحسب التحليل الفرنسى – إلى ثلاثة عناصر حاسمة:

١ - التمويل المتدفق إلى جمعيات ومؤسسات واجهة:

أبرز ما رصده التقرير هو اعتماد جماعة الإخوان فى السويد على شبكة من الجمعيات والمؤسسات التى تعمل كواجهات قانونية، تتلقى تمويلًا محليًا ودوليًا باسم العمل المجتمعى والديني. هذه الجمعيات تستفيد من نظام الدعم الحكومى المخصص لمنظمات المجتمع المدني، وتحصل أحيانًا على تمويلات من مؤسسات مانحة أوروبية، وفى بعض الحالات من جهات أجنبية ترتبط إيديولوجيًا أو سياسيًا بالجماعة. هذا التدفق المالى لا يُستخدم فقط فى تأمين أنشطتها، بل يمكّنها أيضًا من بناء نفوذ ناعم داخل الجاليات، والسيطرة على بعض المنابر الدينية والتعليمية.
ويُثير هذا النمط من التمويل تساؤلات جدية حول الشفافية والمساءلة، إذ غالبًا ما تتم التغطية على الارتباطات الفكرية والتنظيمية للجمعيات المعنية، مما يصعّب على السلطات تتبع الأجندات الحقيقية لها. ولعل الخطورة الأهم تكمن فى أن هذه الموارد تُوظّف فى بناء "بُنى موازية" للمجتمع السويدي، توفّر بيئة حاضنة لخطاب الهوية الدينية المعزول، وتُقلّص من فرص اندماج بعض الفئات فى النموذج العلمانى الديمقراطى للدولة.

٢ -  نظام التعددية الثقافية يمكّن الجماعة من التحرك ضمن أطر شرعية:

يشير التقرير إلى أن سياسة التعددية الثقافية التى اتبعتها السويد لعقود، والتى تقوم على احترام الخصوصيات الدينية والثقافية للمهاجرين، قد وفّرت بيئة خصبة لتحرك جماعة الإخوان بأدوات شرعية، دون أن تُواجَه بتحديات قانونية أو رقابية حازمة. فبموجب هذا النظام، سُمِح بإنشاء مساجد، ومدارس دينية، ومراكز ثقافية تُدار من قبل جمعيات ذات خلفيات إسلاموية، تحت لافتات المجتمع المدنى والتنوع الثقافي. ومن هنا، استطاعت الجماعة التمدد مؤسسيًا لا من خلال الصدام مع الدولة، بل عبر الاستفادة من قوانينها.
غير أن هذه الديناميكية كشفت عن حدود سياسة الانفتاح عندما اصطدمت بممارسات تُناقض قيم الدولة الديمقراطية، مثل الفصل بين الجنسين فى بعض المدارس، أو الدعوة إلى نمط عيش مغلق على الذات. وهنا تُطرح معضلة فلسفية وسياسية: إلى أى مدى يجب أن تقبل الدولة الديمقراطية أنماط تنظيم داخلى لا تشترك فى منظومة القيم التى تقوم عليها؟ التقرير الفرنسى يضع إصبعه على هذا التوتر، ويعتبره أحد الأسباب الرئيسية التى مكّنت الإخوان من تأسيس نفوذ رمزى ومؤسسى داخل السويد، تحت مظلة الشرعية الشكلية.

٣ - علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع بعض الأحزاب:

النقطة الثالثة التى تناولها التقرير تتعلق بعلاقات الجماعة مع بعض الأحزاب السياسية السويدية، خصوصًا الحزب الاشتراكى الديمقراطي، والذى يُتهم من قبل خصومه، خاصة فى أوساط اليمين، بأنه تغاضى طويلًا عن نشاط الجمعيات الإسلامية المرتبطة بفكر الإخوان، بحجة الحفاظ على قاعدة انتخابية داخل بعض الأحياء والمجتمعات المهاجرة. العلاقة لم تكن دائمًا مباشرة أو مؤسسية، بل كثيرًا ما تمّت عبر شخصيات أو منظمات وسيطة لعبت دور "الناقل" بين خطاب الهوية الدينية وخطاب الاندماج السياسي.
ووفق التحليل الفرنسي، فإن هذه العلاقة منحت جماعة الإخوان نوعًا من الحصانة السياسية فى فترات معينة، وسمحت لها بالتحرك بحرية أكبر ضمن المجال العام، مع الحفاظ على خطاب مزدوج: إصلاحى واندماجى فى الظاهر، لكنه مؤدلج ومنغلق فى العمق. وهذه الازدواجية أضعفت قدرة الدولة على التقييم الموضوعى لأنشطة هذه الجماعات، خصوصًا فى ظل غياب أدوات قانونية أو استخباراتية كافية للتمييز بين الإسلام كمكون دينى شرعي، والإسلاموية كأيديولوجيا سياسية تتحدى الدولة من داخلها.

بنية موازية داخل الديمقراطية

ما يكشفه التقرير الفرنسى حول نشاط جماعة الإخوان فى أوروبا، ويتردد صداه بوضوح فى السياق السويدي، هو أن الجماعة لا تعتمد استراتيجية المواجهة العنيفة أو الخطاب الراديكالى المباشر، كما تفعل التنظيمات الجهادية، بل تراهن على "التحايل الهيكلي" عبر التغلغل البطيء فى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. هذا التغلغل يأخذ شكل بناء بُنى موازية ضمن الدولة الديمقراطية، من خلال تأسيس مؤسسات تبدو للوهلة الأولى منخرطة فى المنظومة السويدية، لكنها فى الواقع تعمل كحامل أيديولوجى لمشروع إسلاموى طويل الأمد. الهدف هو خلق مجتمع داخل المجتمع، يُدار بمنظومة قيم دينية مغايرة لتلك التى يقوم عليها النظام الديمقراطى العلماني.
يتجلى هذا النهج فى إنشاء شبكة من المدارس الحرة (Friskolor) ذات الخلفية الإسلامية، والتى تحصل على تمويل مباشر من الحكومة السويدية، وتعمل فى بعض الحالات ضمن توجهات محافظة أو فصلية، مثل الفصل بين الجنسين أو التركيز المبالغ فيه على التعليم الدينى على حساب المناهج العامة. إضافة إلى المدارس، تُنشئ الجماعة مراكز ثقافية وجمعيات دينية واجتماعية تحت عناوين مثل "تمكين الأقليات" أو "الاندماج المجتمعي"، لكنها غالبًا ما تُدار من أشخاص يرتبطون بأوساط الإسلام السياسي. مثال بارز على ذلك: "الرابطة الإسلامية فى السويد" التى ورد اسمها فى تقارير عديدة ككيان يُشتبه فى تبعيته الأيديولوجية لجماعة الإخوان، منها تقرير "الجماعات الإسلامية فى أوروبا" الصادر عن معهد مونتين الفرنسى عام ٢٠١٨.
السياق السويدى تحديدًا وفّر أرضًا خصبة لهذا التمدد "الناعم"، بسبب الإرث الطويل للبلاد فى دعم الحقوق والحريات واحتضان التعددية الثقافية. فالدولة تمنح تمويلًا سخيًا للمنظمات غير الربحية، بما فى ذلك المنظمات الدينية، طالما أنها تستوفى الحد الأدنى من المعايير الشكلية. غير أن هذا التساهل أتاح – عن غير قصد – تمويل كيانات تعمل ضمن منظومة قيم مغلقة. فى هذا الإطار، نشرت وكالة الطوارئ المدنية السويدية (MSB) عام ٢٠١٧ تقريرًا صادمًا أكد وجود شبكات إسلاموية ذات طابع إخوانى تمارس أنشطة تعليمية ودينية واجتماعية، وتتلقى تمويلًا حكوميًا مباشرًا أو غير مباشر، دون أن تخضع لرقابة فكرية حقيقية على محتواها أو خطابها الداخلي.
أخطر ما فى هذا المشروع هو الازدواجية فى الخطاب: فى العلن، تتبنى هذه المؤسسات لغة الحقوق، والتعددية، وتمكين المرأة، والاندماج. أما فى الداخل، فتقوم على إعادة إنتاج قيم محافظة دينية منغلقة، تشكك فى مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية، وتُعلى من مرجعيات فقهية فوق القانون الوطني. هذه الازدواجية مكّنت الجماعة من كسب ثقة بعض النخب السياسية والبيروقراطية، خصوصًا فى اليسار، لكنها فى الواقع ساهمت فى تعميق العزلة الثقافية لبعض الجاليات المسلمة، وخلق مساحات اجتماعية خارج التفاعل مع القيم السويدية، مما يقوّض مشروع الاندماج نفسه من الداخل.
تُظهر حالة السويد كيف أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي، فدعم الأقليات الدينية أو الثقافية دون آليات رقابة صارمة قد يتحول إلى منصة لاختراق الدولة من داخلها. وقد بدأت بعض البلديات والمؤسسات السويدية – متأخرة – فى مراجعة سياساتها التمويلية وتدقيق خلفيات الجمعيات المتلقية للدعم، بعد تقارير إعلامية واستقصائية عديدة، أبرزها ما نشرته صحيفة Dagens Nyheter السويدية فى ٢٠٢٠ و٢٠٢٢، عن صلات مشبوهة بين جمعيات ممولة حكوميًا وقيادات إخوانية. لكن التحدى الأكبر اليوم يكمن فى كيفية تفكيك هذه الشبكات دون انتهاك الحريات العامة، وفى الوقت نفسه منع استخدام القوانين الديمقراطية كحصان طروادة لأجندات معادية لها.

اليسار فى مأزق.. واليمين فى حالة هجوم

لم يمرّ التقرير الفرنسى حول تمدد جماعة الإخوان المسلمين فى أوروبا دون صدى فى السويد، بل تحوّل إلى شرارة صدام داخلى بين القوى السياسية، حيث استغلته أحزاب اليمين كدليل على فشل الحكومات اليسارية المتعاقبة فى مواجهة خطر الإسلام السياسي. وركزت الاتهامات على الحزب الاشتراكى الديمقراطى (Socialdemokraterna) بوصفه راعيًا ضمنيًا لسياسات التعددية الثقافية التى وفّرت مظلة قانونية ومالية لكيانات محسوبة على الإخوان. وكان لافتًا أن بعض الجمعيات الواردة فى تقارير استخبارية أو إعلامية – مثل رابطة الشباب الإسلامى فى السويد (SUM) - سبق أن تعاونت محليًا مع فروع للحزب الاشتراكى فى برامج الاندماج والمشاركة المجتمعية، ما فتح باب الشكوك حول علاقة غير مباشرة بين الحزب والجماعة.
أبرز من التقط هذه الثغرة السياسية كان حزب "ديمقراطيو السويد"   (Sverigedemokraterna)  اليمينى المتشدد، الذى استثمر التقرير لتصعيد هجومه على الحكومة السابقة بقيادة الاشتراكيين. قادة الحزب، مثل جيمى أوكيسون، أطلقوا تصريحات تتهم الحزب الاشتراكى بالتراخي، بل وبـ"التحالف الضمنى مع الإسلاميين"، فى محاولة لكسب أصوات الناخبين القلقين من الهجرة والتطرف. كما ساند حزب المحافظين (Moderaterna)، الشريك فى الائتلاف الحاكم، هذه الاتهامات، ودعا إلى إجراء تدقيق شامل فى تمويل الجمعيات الإسلامية، بما فى ذلك تلك التى حصلت سابقًا على دعم من البلديات ذات القيادة الاشتراكية، مثل مالمو ويوتيبوري.
الرد الحكومى الرسمى لم يتأخر. فقد طالبت وزيرة الهجرة ماريا مالمير ستينيرغارد (عن حزب المحافظين) الحزب الاشتراكى بـ"تحقيق داخلى شفاف" حول علاقته بجمعيات إسلامية تحمل شبهة أيديولوجية. الوزيرة صرّحت لصحيفة Expressen فى مارس ٢٠٢٥ أن "السويد بحاجة إلى اليقظة، لأن بعض التنظيمات تستخدم مؤسسات الدولة كحصان طروادة لأجندات لا تتفق مع ديمقراطيتنا". كما أكدت أنها ستقترح آلية رقابة جديدة على تمويل الجمعيات الدينية، مشيرة إلى ما كشفه تقرير وكالة الطوارئ المدنية السويدية عام ٢٠١٧ بشأن وجود شبكات إخوانية تستخدم غطاء الجمعيات الثقافية والدينية لترويج أفكار موازية للنظام الديمقراطي.
من جهته، حاول الحزب الاشتراكى الديمقراطى احتواء العاصفة الإعلامية والسياسية عبر النفى المتكرر لأى علاقة تنظيمية مباشرة مع جماعة الإخوان أو الجمعيات التابعة لها. المتحدثون باسم الحزب شددوا على أن أى تعاون تم مع جمعيات محلية كان فى إطار العمل المدني، ولا يمثل اعترافًا بأجنداتها الأيديولوجية. لكن هذه التبريرات لم تقنع خصومهم، خصوصًا أن بعض القيادات المحلية فى الحزب ظهرت فى صور وفعاليات إلى جانب شخصيات محسوبة على الطيف الإسلاموي، مثل أعضاء فى رابطة المسلمين فى السويد، أو قياديين سابقين فى جمعيات شبابية إسلامية لها جذور إخوانية.
ما بين تصعيد اليمين وتبريرات اليسار، يظهر خلف المشهد صراع أعمق يتعلق بإشكالية الاندماج وفشل الرقابة على الجمعيات الدينية والسياسية. أجهزة الأمن السويدية كانت قد نبّهت فى تقارير سابقة إلى أن بعض المجموعات الإسلاموية تعتمد على استراتيجيات "التحايل القانوني" لتوسيع نفوذها داخل الأوساط المسلمة، مستخدمة خطابًا مزدوجًا: معتدل فى العلن، ومتشدّد فى الداخل. هذا ما دفع بعض المحللين، مثل الباحث السويدى ماغنوس نوريل، إلى القول إن "الإخوان لا يسعون للسيطرة بالعنف بل عبر التغلغل الناعم فى البيروقراطية والديمقراطية"، وهو ما يجعل القضية ليست فقط أمنية أو سياسية، بل سؤالًا وجوديًا حول حدود التعددية فى مجتمع مفتوح مثل السويد.

تصدّع النموذج الليبرالي

تشهد أوروبا لحظة مراجعة عميقة للنموذج الليبرالى الذى حكم علاقتها مع الدين والتعددية لعقود، خصوصًا بعد تنامى نفوذ جماعات الإسلام السياسي. فالتجربة أظهرت أن قيم التسامح وحرية المعتقد، التى شكّلت حجر الزاوية فى المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، باتت عُرضة للاستغلال من قبل تيارات إيديولوجية لا تؤمن بهذه القيم فعليًا. السويد، مثلها مثل فرنسا وألمانيا والنمسا، بدأت تدرك أن التعددية الثقافية غير المنضبطة يمكن أن تنتج مجتمعات موازية، تستفيد من مؤسسات الديمقراطية دون أن تندمج فى نسيجها. وتحديدًا بعد هجمات باريس ٢٠١٥ وقضية المعلمين فى السويد الذين تعرضوا للتهديد بعد انتقادهم ممارسات دينية متشددة، بدأ النقاش يأخذ منحى أكثر صرامة فى ربط الأمن القومى بالتطرف الديني.
فى هذا السياق، برزت تقارير أوروبية، التى دعت إلى إعادة رسم العلاقة بين مؤسسات الدولة والجمعيات ذات المرجعية الإسلاموية. أوصت تقارير المركز، مثل تقرير يناير ٢٠٢٣، بسنّ تشريعات تقيّد تدفق التمويل الخارجى إلى تلك الجمعيات، وإنشاء وحدات متخصصة لمراقبة الخطاب الدينى والسياسى داخل المراكز الإسلامية، خاصة تلك التى تتبنى سرديات إخوانية أو سلفية سياسية. كما دعا المركز إلى اعتماد الشفافية التامة فى عمل الجمعيات الدينية، وتدريب الموظفين العموميين على التفرقة بين النشاط الإسلامى المدنى والنشاط الذى يحمل خلفيات أيديولوجية.
استجابةً لهذه الدعوات، شرعت الحكومة السويدية منذ عام ٢٠٢٢ فى إجراءات تدريجية تهدف إلى تحجيم نفوذ جماعات الإسلام السياسي. أحد أبرز هذه الخطوات كان إعلان وزارة الثقافة السويدية عن مراجعة شاملة لآلية تمويل الجمعيات الدينية، خاصة تلك التى تتلقى دعمًا من جهات خارجية مثل قطر أو تركيا. كما بدأت السلطات بفحص "البنية الداخلية" للمراكز الإسلامية الكبرى، ومنها مركز ستوكهولم الإسلامى وجمعية فورشبيرغا الإسلامية، التى ذُكرت فى تقارير إعلامية واستخباراتية بتهمة تقديم منابر لخطاب مزدوج، معتدل علنًا ومتشدّد ضمنيًا.
فى موازاة ذلك، تعمل الحكومة على إعادة تنظيم المشهد الدينى الإسلامى داخل السويد. أحد أبرز التوجهات المطروحة اليوم هو فرض الرقابة على خطب الجمعة وخطاب المساجد، خصوصًا فى المدن الكبرى مثل ستوكهولم ويوتيبورى ومالمو. هذه الخطوة جاءت بعد تقارير استخباراتية أكدت أن بعض الأئمة يتعمدون تمرير رسائل غير منسجمة مع قيم المواطنة والديمقراطية، مستخدمين اللغة العربية أو التركية للتلاعب بالرقابة. إضافة إلى ذلك، تدرس الحكومة إنشاء هيئة مركزية لتأهيل الأئمة على النمط الفرنسى – حيث يُشترط اليوم فى فرنسا أن يخضع الإمام لتدريب مدنى وقانونى – وذلك لمنع التحاق خطباء غير مؤهلين قادمون من دول خارجية إلى منابر المساجد السويدية.
مواجهة الإخوان.. ليست حربًا على الإسلام
فى قلب النقاش الدائر حول جماعة الإخوان المسلمين فى السويد، يجب التأكيد على مبدأ أساسي: التمييز بين الإسلام كعقيدة روحية، وبين الإسلام السياسى كمشروع أيديولوجي. فالحركات التى تتبنى أجندات سياسية باسم الدين – وعلى رأسها جماعة الإخوان – لا تمثل الجالية المسلمة، بل تسعى إلى احتكار تمثيلها وفرض سردية موحدة تعكس مصالحها التنظيمية. هذا ما أشار إليه تقرير وكالة الطوارئ المدنية السويدية (MSB) عام ٢٠١٧، حين أكد أن بعض الجمعيات المتشددة "تدّعى تمثيل المسلمين لكنها تروّج لرؤية ضيقة ومؤدلجة للإسلام"، ما يخلق صراعًا داخليًا داخل الجاليات نفسها، ويضر بمبدأ التعدد داخل الإسلام ذاته.
تجربة السويد تكشف أن جماعة الإخوان لا تتصرف كجمعية دينية محلية بل كفرع من تنظيم عالمى له أهداف استراتيجية تتجاوز حدود الدولة المضيفة. هذا التنظيم يتبنى خطابًا مزدوجًا: معتدلًا موجهًا للإعلام والرأى العام، ومتشدّدًا فى الأوساط المغلقة وبين الأنصار. وقد كشفت تقارير سويدية، منها ما نشرته صحيفة إكسبريسن، عن استخدام بعض الأئمة المرتبطين بالجماعة للمنابر فى التحريض ضد مفاهيم الدولة العلمانية، أو رفض مشاركة النساء فى الأنشطة المجتمعية. هذه الممارسات لا علاقة لها بالإسلام كدين، بل تعكس بنية تنظيمية تسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع وفق مشروع جماعى شمولي.
السياسات السويدية الجديدة فى مراقبة التمويل الخارجى للجمعيات الدينية، أو فحص محتوى خطاب المساجد، لا تُصنف ضمن حملة ضد الإسلام أو المسلمين، بل تأتى فى إطار دفاع الدولة عن قيم المواطنة وفصل الدين عن الدولة. فحرية الدين مكفولة تمامًا فى الدستور السويدي، لكن التحايل على هذه الحرية لترويج أجندات سياسية دينية يهدد أسس التعايش الديمقراطي. ولهذا السبب، أكدت وزيرة الثقافة السويدية باربرو أوسكارسون فى تصريح عام ٢٠٢٣ أن "الدولة لا تحارب الدين، بل تحارب أولئك الذين يستخدمونه كوسيلة لبناء سلطات موازية داخل المجتمع".
من المفارقات التى يجب التنبه لها أن ضحايا الإسلام السياسى فى أوروبا كثيرًا ما يكونون من المسلمين أنفسهم، خصوصًا النساء والشباب الذين يُراد لهم البقاء تحت وصاية دينية أو ثقافية مفروضة باسم "الهوية". فى السويد، أطلقت جمعيات إسلامية معتدلة – مثل "رابطة المسلمين الديمقراطيين" – حملات ضد احتكار الإخوان للتمثيل، ونددت باستخدام الدين فى الخطاب السياسي. كما دعت هذه الجمعيات إلى تمكين المرأة المسلمة، واحترام الحريات الشخصية ضمن الإطار المدني، ما يعكس وجود تيار إسلامى تقدمى لا يتماهى مع الإسلاموية السياسية. وبالتالي، فإن مواجهة الإخوان ليست حربًا على الإسلام، بل حماية للإسلام من التسييس، وللمجتمع من الانقسام.
ما بدأ كتقرير أمنى فى باريس، أصبح اليوم لحظة مواجهة سياسية وفكرية فى ستوكهولم. السويد التى طالما وُصفت بأنها حاضنة التسامح الليبرالي، تقف اليوم أمام سؤال وجودي: هل يمكن الحفاظ على نموذج الانفتاح دون أن يتحول إلى بوابة لتسلل جماعات عابرة للقيم الوطنية؟
الإجابة لا تكمن فى خطاب الكراهية أو ردود الفعل الشعبوية، بل فى سياسات عقلانية، واضحة، صارمة، تراعى الأمن دون أن تفرّط فى الحريات. فمكافحة مشروع الإخوان ليست فقط معركة ضد التطرف، بل دفاع عن العقد الاجتماعى الأوروبى نفسه.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق