سفراء الخداع

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم تعد الإمبراطوريات اليوم تحتاج إلى جيوش تجتاح الأرض، بل إلى صور تجتاح الوعي. لم تعد تحتل البلدان بالبارود، بل بالقصص. هذا عصر السيطرة التي تبتسم، وتهمس، وتغريك… ثم تأخذك من يدك إلى حيث لا تدري.

الهيمنة لم تعد تركب الدبابة، بل تركب الإعلان. لم تعد تقيم الثكنات، بل تبني المنصات. إنها لا تصرخ، بل تغنّي. لا تفرض، بل توحي. لا تقتل، بل تُقنع بأن القتل جزء من التقدم، وأن الانصهار هو أرقى أشكال التحضّر.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ — والفتنة هنا لم تكن دومًا دمًا ونارًا، بل قد تكون ومضة، أو مقطعًا، أو لونًا يحمل سمًّا على هيئة ذوق.

في هذا الزمن، لا يُطلب منك أن تتخلى عن ذاتك… بل يُجعل من ذاتك شيئًا تُعيب النظر إليه. تُربّى لتشمئز من لهجتك، من لباسك، من ذاكرة جدتك، وتُغرم بصورٍ لا تنتمي إليك، لكنها تُعرض أمامك كأنها الحقيقة الوحيدة الممكنة.

هؤلاء ليسوا معلنين ولا فنانين فقط، إنهم “سفراء الخداع” — رُسلٌ في ثياب أنيقة يحملون بذور الانسلاخ، لا في شعاراتهم، بل في “العادي” الذي يُروّجون له، في الضحك، في الموسيقى، في ما لا يثير الشبهات.

القوة الناعمة لا تفتح الباب، بل تتركه مواربًا حتى تظن أنك أنت من قررت الدخول. تغلف الهيمنة في لغة الإنجاز، وتخفي الاستلاب خلف عبارات براقة عن “الانفتاح”، و”المواطنة الكونية”، و”تقبل الآخر” — بشرط أن يكون هذا “الآخر” هو أنت، لا هم. لكن ما أخطر الخدعة حين تأتي على هيئة حلم. أن تُعجب بما يدمّرك. أن تشتري هزيمتك مغلّفة على هيئة هاتف، أو مسلسل، أو بودكاست ملهم. أن تكون أنت من يوقّع على عقد نفيك الثقافي، ظانًا أنك ترتقي.

قال النبي ﷺ: “لتتبعن سنن من كان قبلكم…” وكان التحذير من الذوبان لا من التعلم، من التماهي لا من التفاعل.

لقد فهم فوكو أن أخطر سلطة هي التي لا تحتاج إلى أن تُقنعك، بل تجعل رغباتك تعمل نيابة عنها. وفهم غرامشي أن الهيمنة ليست فقط في من يملك السلاح، بل في من يصوغ الخيال.

القوة الناعمة لا تسألك أن تؤمن، بل تُدخلك في طقوسها دون وعي. تضعك في طابور طويل لتنتظر قبولًا في عالم لا يعترف بك إلا إن نسيت من تكون.

إنهم لا يقولون لك “غيّر دينك” أو “اهجر لغتك” — بل يجعلونك تشعر بأن الدين صار عبئًا، وأن لغتك بدائية، وأن الحياء ضعف، وأن المبدأ عقبة.

هكذا يُستبدل الذوق بالقالب، والوعي بالانبهار، والانتماء بالانصهار. ومنصة واحدة قد تفعل في الهوية ما لم تفعله قرون من الاستعمار المباشر. مسلسل وحيد قد يُعيد تعريف العائلة، أو ينسف فكرة الوطن، أو يُلبس القهر ثوب التحرّر.

في هذا العالم، لا شيء يُفرض، كل شيء يُستبطن. لا شيء يُقال، كل شيء يُلمّح. وكلما قلنا “مجرد ترفيه”، كان الخداع قد بلغ ذروته.

إننا اليوم لا نستهلك فنًّا فقط، بل نستهلك مفاهيم، نضحك على مقالب تحمل رؤى، ونبكي في مشاهد تُعيد برمجة عواطفنا… بينما نتوهم أننا محصنون.

لكن السؤال الذي نُقصي دومًا: من يكتب السيناريو؟ ومن يقرر نهايته؟

إذا لم نطرح هذا السؤال، فإننا لا نعيش في عالم مفتوح، بل في سردية مغلقة صيغت مسبقًا، نتحرك فيها بحرية… محسوبة.

فلننظر حولنا: من يختار أذواقنا؟ من يعيد تعريف “النجاح”؟ من صاغ نموذج “الحياة المثالية” الذي يُعرض كل مساء على الشاشات، ثم ننهار خجلًا حين نعجز عن تقليده؟

الهيمنة اليوم لا تأمرك بأن تنحني، بل تجعلك تظن أن الوقوف عيب.

إننا بحاجة إلى نقدٍ يُشبه المرآة، لا المطرقة. إلى وعي لا يعادي الجمال، بل يفتّش عمّا تحته. إلى ذوق لا يُستعار، بل ينبع من الذات، من تاريخها، من أسئلتها، لا من ترندٍ عابر.

فإذا كانت الحروب تُسقط الأجساد، فإن القوة الناعمة تُقيد الأرواح — وتلك أقسى، لأنها تجعلنا نحبّ القفص، ما دام مذهّبًا بلون الذهب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق