كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل مستقبل الإبداع البشري؟

البوابة العربية لأخبار التقنية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بدأ الذكاء الاصطناعي كمحاولة علمية وهندسية لمحاكاة الدماغ البشري وقدراته المعرفية المعقدة، لكنه اليوم يتجاوز هذا الهدف ليصبح قوة تحويلية تعيد تشكيل دور العقل البشري في حياتنا اليومية.

فبينما قللت الثورة الصناعية من الحاجة إلى العمل اليدوي والعضلي، يبدو اليوم أننا الآن على أعتاب ثورة معرفية قد تلغي الحاجة إلى بعض العمليات المعرفية البشرية، في حين تعيد صياغة الطرق التي يكتب بها الطلاب، ويعمل بها الموظفون، ويبدع بها الفنانون، ويتخذون بها قراراتهم، مما يعيد تشكيل طرق عملنا وإبداعنا.

ولكن ما التداعيات الاقتصادية والثقافية لهذا التحول؟ وكيف يمكننا الحفاظ على الإبداع البشري في عصر يهيمن عليه التفكير الخوارزمي؟

أصداء من الماضي.. الثورة الصناعية كمرآة:

التاريخ يعيد نفسه، لكن بثوب جديد، فخلال الثورة الصناعية، حلّ الإنتاج الآلي محل الحرف اليدوية التقليدية، مما سمح بتصنيع السلع وتكرارها على نطاق واسع بكفاءة وتوحيد غير مسبوقين، وقد أتاح ذلك إنتاج الأحذية والسيارات والمحاصيل بسرعة وانتظام، لكن الثمن كان منتجات أكثر رتابة، يمكن التنبؤ بها، ومجردة من اللمسة الفردية، وتراجعت الحرفية إلى الهامش، لتصبح ترفًا أو شكلًا من أشكال المقاومة ضد الرتابة الصناعية.

واليوم، نشهد تحولًا مماثلًا مع أتمتة الفكر، إذ يُغري الذكاء الاصطناعي التوليدي مستخدميه بالخلط بين السرعة والجودة، وبين الإنتاجية والأصالة، فعلى سبيل المثال: يستعين مصممو الجرافيك به لإنشاء باقة متنوعة من الشعارات المحتملة لعملائهم في وقت وجيز. أما المسوقون، فيستخدمونه لاختبار تفاعل ملفات العملاء الافتراضية التي يولدها الذكاء الاصطناعي مع حملاتهم الإعلانية، ويقلل ذلك من الحاجة إلى التجربة والخطأ البشري في فهم سلوك المستهلك ويجعل الحملات التسويقية أكثر استهدافًا وفعالية.

كما يعتمد مهندسو البرمجيات على مساعدين للبرمجة يعملون بالذكاء الاصطناعي لتسريع عملهم، وحتى في المجال الأكاديمي، يستخدم الطلاب الذكاء الاصطناعي لصياغة المقالات بسرعة قياسية، ويستعين المعلمون بأدوات مشابهة لتقديم تقييمات وملاحظات فورية لهم.

ومع ذلك لا يكمن الخطر الحقيقي في فشل الذكاء الاصطناعي، بل في قبول المجتمع لرداءة مخرجاته وعدِّها المعيار الجديد، فعندما يصبح كل شيء سريعًا وسلسًا، وجيدًا بما يكفي، فإننا نجازف بفقدان العمق، والفروق الدقيقة، والثراء الفكري الذي يميز الأعمال البشرية الاستثنائية.

لذلك تثير هذه التطورات تساؤلات جوهرية حول مستقبل المهارات البشرية، فماذا سيكون مصير الكاتب الذي لم يَعد يعاني للبحث عن العبارة المثالية، أو المصمم الذي لم يَعد يمضي ساعات في رسم العشرات من النماذج المختلفة قبل أن يستقر على التصميم المنشود؟

هل سيصبح هؤلاء أكثر اعتمادًا على هذه الأدوات المعرفية الاصطناعية، بطريقة قد تضعف قدراتهم المعرفية الأساسية، تمامًا كما أضعف استخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مهارات الملاحة التقليدية؟ والأهم من ذلك، كيف يمكننا الحفاظ على الإبداع البشري والتفكير النقدي في عصر تُهيمن عليه وفرة الخوارزميات؟

ما مخاطر الرداءة الخوارزمية؟

خلافًا لاسمه، فإن الذكاء الاصطناعي لا يفكر فعليًا بالمعنى الإدراكي البشري، فأدوات مثل: ChatGPT، و Claude، و Gemini تعالج كميات ضخمة من المحتوى الذي أنتجه البشر، الذي غالبًا ما يُجمع من الإنترنت دون سياق واضح أو إذن.

وتُعدّ المخرجات التي تقدمها هذه الأدوات مجرد تنبؤات إحصائية للكلمة أو البكسل التالي بناءً على الأنماط والعلاقات الموجودة ضمن كميات البيانات الضخمة التي دُربت عليها. لذلك فهذه الأدوات في جوهرها هي بمنزلة مرايا تعكس الإنتاج الإبداعي البشري الجماعي لمستخدميها، فالمحتوى الذي تنتجه هو في الأساس مُعاد ترتيبه ومدمج من مصادر موجودة سابقًا، لذلك  يظل في جوهره مشتقًا وليس أصيلًا، وهذا بالضبط هو السبب الجوهري لفعاليتها الظاهرية في العديد من التطبيقات.

وعند تأمل كمية رسائل البريد الإلكتروني التي يكتبها الناس يوميًا، والإعلانات التي تملأ منصات التواصل الاجتماعي، ستجد جزء كبير من هذا المحتوى يتبع أنماطًا متوقعة وصيغًا ثابتة، بمعنى آخر، لقد كان هذا النوع من المحتوى موجودًا بالفعل، بشكل أو بآخر، قبل ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي.

لذلك يتفوق الذكاء الاصطناعي التوليدي بنحو خاص في إنتاج محتوى ذي طابع كفء، مثل: القوائم، والملخصات، والبيانات الصحفية، والإعلانات، ويحمل هذا المحتوى سمات الإبداع البشري الظاهرية، لكنه يفتقر إلى تلك البراعة أو الأصالة العميقة التي تميز الإبداع البشري الحقيقي. ومن ثم؛ يزدهر الذكاء الاصطناعي في السياقات التي يكون فيها طلب الأصالة منخفض، وعندما يكون معيار الجيد بما فيه الكفاية مقبولًا ومناسبًا للغرض.

هل الذكاء الاصطناعي محفز للإبداع أم مُقيد له؟

مع هذه المخاطر، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لتعزيز الإبداع في بعض السياقات، إذ أظهرت تجارب بحثية أن الأشخاص الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي التوليدي لإكمال تحديات إبداعية مختلفة أنتجوا أفكارًا كانت في المتوسط أكثر إبداعًا مقارنة بمن اعتمدوا على البحث عبر الإنترنت أو لم يستخدموا أي أدوات مساعدة، ويشير ذلك إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يساهم فعلًا في رفع مستوى الأداء الإبداعي الأساسي.

ولكن كشف تحليل أعمق عن مقايضة خطيرة: الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي في عمليات العصف الذهني أدى إلى تقليل كبير في تنوع الأفكار المنتجة، ويُعدّ تنوع الأفكار عنصرًا أساسيًا لتحقيق الإنجازات الإبداعية الحقيقية، إذ تميل أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى التقارب نحو حلول وسط متوقعة بدلًا من استكشاف الإمكانيات غير التقليدية أو الأفكار الجريئة التي قد تقع على أطراف الطيف الإبداعي.

وعلاوة على ذلك، وجدت إحدى الدراسات أن أنظمة مخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي غالبًا ما تتماشى مع قيم ووجهات نظر الدول الغنية الناطقة بالإنجليزية، مما يحد من تنوع الأفكار التي يمكن أن تولدها هذه الأنظمة.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو قدرة التفاعلات القصيرة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل مقاربة الأفراد للمشكلات وتصورهم للحلول بنحو خفي، ففي إحدى التجارب، طُلب من المشاركين إجراء تشخيصات طبية بمساعدة الذكاء الاصطناعي، الذي صُمم ليقدم اقتراحات معيبة لبعضهم، واللافت للنظر أنه حتى بعد توقف هؤلاء المشاركين عن استخدام الأداة، استمروا بطريقة غير واعية في تبني تلك التحيزات وارتكاب أخطاء مماثلة في قراراتهم الخاصة.

ويعني ذلك؛ أن ما يبدأ كاختصار مريح وسهل في العمل اليومي، قد يتحول إلى حلقة مفرغة مُعززة ذاتيًا تؤدي إلى تضاؤل ​​الأصالة، ليس لأن هذه الأدوات تنتج محتوى رديئًا بالضرورة، بل لأنها تضيق تدريجيًا نطاق الإبداع البشري ذاته، وتدفعنا نحو مسارات فكرية أقل تنوعًا وأكثر توافقًا مع الأنماط المألوفة.

الإبحار في خضم الثورة المعرفية: 

لا يقتصر الإبداع الحقيقي والابتكار والبحث العميق على مجرد إعادة تجميع لبيانات الماضي المتاحة، بل تتطلب هذه العمليات قفزات مفاهيمية جريئة، وتفكيرًا متعدد التخصصات يربط بين مجالات مختلفة، وخبرة عملية متراكمة من التفاعل مع الواقع. وهذه هي الصفات الجوهرية التي يعجز الذكاء الاصطناعي عن محاكاتها أو تكرارها. فهو ببساطة لا يملك القدرة على اختراع المستقبل، وكل ما يمكنه فعله هو إعادة مزج وتشكيل ما هو موجود بالفعل من بيانات الماضي.

وقد يلبي ما يولده الذكاء الاصطناعي حاجة قصيرة المدى بكفاءة ملحوظة، إذ قد يقدم ملخصًا سريعًا، أو تصميمًا معقولًا، أو نصًا مقبولًا بنحو عام، لكنه في جوهره نادرًا ما يُحدث تغييرًا جذريًا أو يخرج عن المألوف، لذلك فإن التحدي الذي نواجهه ليس تقنيًا فحسب، بل هو في جوهره ثقافي.

والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكننا الحفاظ على القيمة الفريدة التي لا يمكن تعويضها للإبداع البشري وسط هذا الطوفان من المحتوى الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي؟

لإيجاد إجابة، يُمكننا النظر إلى السياق التاريخي للثورة الصناعية، لقد أدت الميكنة والتصنيع إلى نزوح العديد من العمال من وظائف تقليدية، وهو ما أثار مخاوف كبيرة في حينها، ولكنها أدت في الوقت نفسه إلى ظهور أشكال جديدة كليًا من العمل، والتعليم، والازدهار الاقتصادي. وبالمثل، بينما قد تُؤتمت أنظمة الذكاء الاصطناعي بعض المهام المعرفية الروتينية، فإنها قد تفتح أيضًا آفاقًا فكرية جديدة تمامًا للبشر.

مسؤولية تشكيل المستقبل المعرفي في عصر الذكاء الاصطناعي:

قد يضطلع الذكاء الاصطناعي، من خلال محاكاته للقدرات الفكرية، بمسؤوليات إبداعية من نوع مختلف، مثل: ابتكار عمليات جديدة أو وضع معايير لتقييم مخرجاته ومخرجات البشر، ولكن هذا التحول لا يزال في مراحله الأولى، ومع كل جيل جديد من نماذج الذكاء الاصطناعي، سنشهد مخرجات كانت تبدو في السابق ضربًا من الخيال العلمي، مما يعكس تطورًا مستمرًا وسريعًا.

وتقع مسؤولية تشكيل هذه الثورة المعرفية على عاتق المهنيين، والمعلمين، وصناع السياسات، إذ يجب عليهم توجيه مسار هذا التطور نحو مستقبل يعزز الإمكانات البشرية بدلًا من أن يحد منها.

ولكن هل ستؤدي هذه الثورة إلى ازدهار فكري غير مسبوق أم إلى تبعية متزايدة للآلة تضعف قدراتنا؟ هل ستكون بمنزلة نهضة للإبداع البشري أم بداية ستؤدي إلى تلاشي أصالته تدريجيًا؟ لا تزال الإجابة عن هذه الأسئلة المصيرية، في الوقت الراهن غير واضحة المعالم، لكنها تعتمد على القرارات والإجراءات التي نتخذها اليوم.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق