في لوغاريتمات الاقتصاد والمال والسياسات النقدية والعالم الموسوعي في الاقتصاد الحديث بكل تفاصيله وحدها الأرقام التي تكشف القادة الحقيقيين في الدول ممن يستطيعون السباحة في دروب الاقتصاد المعقدة ويفكون التشابكات ويحللون الأرقام والمؤشرات المتقاطعة ليخلقوا منها سياسة مختلفة تقود الاقتصاد الكلي نحو الانطلاق وتحصنه ضد السقوط وتبتدع فيه الفرص وتعبد له الطريق إلى رحاب العالمية والقوة الاقتصادية الشاملة وتعزيز مراكز الجذب المالي في الدولة لذا صارت القيادات المصرفية التي تملك كل تلك المقومات عملة نادرة للغاية.
حسن عبد الله فيلسوف المال وعراب البنوك من القيادات المصرفية النادرة في مصر والشرق الأوسط والعالم التي أثبتت قدرة العقلية المصرية على تجاوز المستحيل وترويض الأزمات واخماد العواصف واختراع منظومة مالية خاصه وفريدة من نوعها استطاع بها التغلب على كل الصعاب المالية والاقتصادية وتحويلها لنقاط انطلاق وقفزات مبهرة حيرت الأوساط المصرفية العالمية.. فالرجل قليل الكلام كثير العمل ونادر التحدث عن الأزمات كريم في طرح الحلول المناسبة.. بعيدا عن المبالغة قريبا من الواقعية وفوق كل ذلك مناور بارع ومفاوض شرس.
لم يكن من قبيل الصدفة أن يقفز اسم حسن عبد الله على مائدة القرار في قصر الاتحادية عندما تأزمت الأمور ولاحت شبح أزمات مالية كبيرة في الأفق خلفتها سياسات عنترية من صنع من سبقوه.. في أغسطس 2022 كلف الرئيس السيسي المصرفي الكبير حسن عبد الله بإصلاح ما فسده الأخرون، وتحمل مسؤولية القادم من العواصف المالية التي لاحت في الأفق مع دخول العالم في نفق مظلم مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية واضطرابات الأسواق الدولية وما تلتها من كوارث عالمية اشتعلت أغلبها على مرمى الحدود.
ورث عبدالله إرثا مشوهًا داخل أروقة المركزي المصري نفسه نتيجة تراكم سياسات ارتجالية وغير مدروسة ممن سبقه والتي خلقتها قرارات وتصريحات لا تتناسب والمنصب المالي المرموق ولا تصدر عن مسؤول بهذا الحجم.. ورث حسن عبد الله منظومة فاشلة في تدبير أمور السياسة النقدية والتنسيق مع باقي مكونات السياسات والتصريحات البعيدة عن الواقع لوسائل الإعلام العالمية والتي وصفت وقتها بأنها تصريحات تنم عن جهل بالسياسة النقدية لمصر وقتها ورسالة سلبية لمؤسسات الاقتصاد والتمويل العالمية دفعت لعودة السوق السوداء وهرولة التجار ورجال الأعمال لتخزين الدولار.. كما وقع من سبقه للمنصب في خطأ كارثي حينما اعتمد على الأموال الساخنة في السياسة النقدية في تعارض لأبجديات السياسة النقدية وكذا التفاخر باحتياطي أغلب مكوناته منحا وودائع وليس من موارد حقيقية فضلا عن حالة التخبط العام وفقدان السيطرة على الأمور داخل عقل السياسة النقدية لدولة في حجم مصر.
لم يجد محافظ البنك المركزي المصري الجديد وقتها نورا في آخر النفق إذ كل الأوراق والأرقام تسود المشهد وتدعو إلى الإحباط واليأس.. والمؤشرات تقول إن مصر دخلت عين العاصفة .. الأموال الساخنة هربت ومافيا العملة توحشت.. وعجلة الاستثمار تجمدت تحت تعدد سعر صرف الدولار في الأسواق.. وطلبات النقد الأجنبي تزداد كل ساعة.. احتياطي يتآكل بسرعة الصاروخ.. كل المعطيات كانت تقول إن مصر على شفا النهاية وأن الكارثة قد اقتربت بفعل الظروف المحيطة بالبلاد وساعد في تأجيجها أطراف خارجية وداخلية استخدمت الدولار لإسقاط هيبة الدولة وهز صورة ما تحقق من إنجازات.
لأنه مصرفي من طراز خاص لم يستسلم المحافظ الجديد للبنك المركزي لعوامل اليأس وبدأ على الفور العمل وكانت الأسبقية لوقف نزيف العملة الصعبة بإجراءات سريعة ومرنة مثل ترشيد الاستيراد ووقف صرف الدولار في سلع ترفيهية ثم أطلق المبادرات المختلفة لتوفير الدولار من موارد جديدة ثم أتت الخطوة الأهم في تاريخ البنك المركزي المصري واتخذ عبد الله القرار الذي لم يجرأ من سبقوه على التفكير فيه لعوامل ضعف في التفكير وقرر إصلاح المنظومة المالية من جذورها ووضع الاقتصاد المصري على الطريق الصحيح وإن كان صعبا.. حرر عبد الله سعر الدولار والعملات وتركها لقانون العرض والطلب وتحركات السوق وهنا فتحت أبواب الجحيم على الرجل من منصات مشبوهة تبشر بإفلاس مصر وتجويع أهلها وأن الدولار سيصل لـ200 جنيه.. لم يلتفت الرجل المشهود له بالثقة والجرأة والهدوء لتلك التفاهات وسريعا جنت مصر ثمار التعويم.
مع امتصاص الأسواق لقرار تحرير سعر الصرف بدأت مصر تعرف لأول مرة اقتصاد السوق بشكل صحيح وكشفت له الخطوة مواطن الضعف في الاقتصاد وتأكد أن الحل الدائم لمشكلات مصر في الإنتاج والتصدير وتعظيم الموارد الدولارية وكلها ملفات بانت أهميتها مع تحرير الجنيه أمام العملات الأجنبية وهنا بدأت الدولة خطط لتصنيع الدولار من خلال خطط إنتاج واسعة وتوطين كل الصناعات الحديثة واستغلال موقع مصر الجغرافي في جذب الاستثمارات الخارجية بالتزامن مع إصلاحات تشريعية وحزم تسهيلات وحوافز للمستثمرين والتخلص من الروتين.. واستغلال ماتم بناؤه من بنية أساسية حديثة على مدار العشر سنوات الماضية.
رويدا رويدا بدأت ملامح مصر المالية والاقتصادية الجديدة تظهر ووقعت الحكومة صفقة رأس الحكمة والتي كانت بداية النهاية في سطوة الدولار وتلتها قفزات في موارد البلاد الدولارية من كل القطاعات بعد خلق بيئة مالية واستثمارية فريدة من نوعها في المنطقة وبنك مركزي هو الأقوى في المنطقة.
الأرقام تنحاز للمبدعين كما انحازت لربان البنك المركزي المصري وتقول إن مصر نجحت في تسديد عشرات المليارات من الدولارات في عهده دون خلل أو اضطراب في سوق الصرف وتقول أيضا إن الاحتياطي النقدي لمصر قفز إلى أكثر من 48 مليار دولار بعد نزيف أوصله إلى 33.2 مليار دولار في نهاية يوليو 2022.. ويحسب للرجل أن الاحتياطي كان يقفز على مدار شهور طويلة وفي ذروة الأزمة والظروف المعاكسة ونجح في تأمين النقد الأجنبي لاستيراد السلع الأساسية للمواطنين وتسديد الديون الخارجية التي لم يتخلف عنها رغم الصعوبات الجمة.
بعد عام من التعويم ترفع الأرقام القبعة لحسن عبد الله ولكتيبة البنك المركزي مع التحسن الغير مسبوق في المؤشرات الاقتصادية والطفرة في التدفقات الدولارية ومنها على سبيل المثال لا الحصر تحويلات المصريين بالخارج والتي سجلت رقما تاريخيا تجاوز 33 مليار دولار بعد أن كادت تختفي في متاهة السوق السوداء.. كل رقم تحقق يستحق أن يسجل في دفاتر الشرف والتميز على قدرة محافظ المركزي على التخطيط والتدبير والتنفيذ والقفز فوق الأزمات لصناعة الحلول.
لم يشهد تاريخ مصر أن محافظا للبنك المركزي كان محور الأحداث والاهتمام كما حدث مع حسن عبد الله والذي في عهده ارتفعت ثقافة المصريين الاقتصادية والمالية وعرف الناس أسعار الفائدة وراقبوا التضخم وفرحوا بقفزة الاحتياطي وسعدوا بالتدفقات والصفقات الضخمة وصارت اجتماعات المركزي محل اهتمام.. هذا هو الأثر الذي صنعه رجل مختلف جعل من الاقتصاد والمال مادة ذات أولوية عند المصريين حتي أنهم تجاوبوا معه في كل قراراته ودخلوا في منظومة الشمول المالي وتعاطوا مع مبادراته.
كما لم يسجل التاريخ ذلك التقارب بين رئيس الجمهورية ومحافظ البنك المركزي من قبل كما يحدث مع عبد الله والذي صار ضيفا دائما في اجتماعات قصر الاتحادية واستقبله الرئيس مرتين في شهر واحد لاستعراض السياسات النقدية والتطورات الاقتصادية.. وتأكيد ثقة الرئيس في رجل قاد قدره ليكون المنقذ لسمعة مصر المالية ويضع اقتصادها على طريق العالمية دون ضجيج.
0 تعليق