استدرار التعاطف على المنصات الرقمية.. دوافع نفسية وتأثيرات اجتماعية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يميل الإنسان بطبيعته إلى البحث عن التعاطف والتأييد، حتى عندما يكون مخطئا أو ظالما. ولذلك، لا تغيب عن المشهد أصوات تلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتروج لما تزعم أنه ظلمٌ تعرضت له، سعيا إلى استدرار التعاطف الجماعي وتسليط الضوء على رواية معينة، قد تكون صادقة أحيانا؛ لكنها كثيرا ما تُجانب الحقيقة التي تتكشف لاحقا.

وفي هذا الإطار، تبرز تساؤلات حول الدوافع النفسية التي تجعل البعض يبالغ في عرض مشاكله أمام جمهور “السوشل ميديا”، وحول التأثيرات الاجتماعية التي تدفع الأفراد إلى تصديق روايات دون تمحيص. كما يُثار نقاش حول الخط الفاصل بين التعبير الطبيعي عن الحاجة إلى الدعم والتفهم، وبين ما قد يكون مؤشرا على اضطراب أعمق في تصور الذات وبناء العلاقات مع الآخرين.

هاجس القبول المزيف

ندى الفضل، أخصائية ومعالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “الإنسان يبحث عن التعاطف وتأييد الآخرين، حتى لو كان مخطئا أو ظالما، بسبب دوافع نفسية واجتماعية عديدة؛ من أبرزها الحاجة الفطرية إلى الانتماء والقبول، باعتبار الإنسان كائنا اجتماعيا بطبعه، ويشعر بالأمان عندما يكون مقبولا ومحبوبا من محيطه، والتعاطف والتأييد يمنحانه هذا الإحساس”.

ومن بين الدوافع التي ذكرت ندى الفضل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، “الخوف من الاعتراف بالخطأ أو الرفض”، موضحة أن “البعض يجد في تبرير سلوكه أو لعب دور ‘الضحية’ وسيلة لحماية صورته الذاتية أمام الآخرين، بل وأحيانا أمام نفسه”.

من جهة أخرى، أكدت الأخصائية والمعالجة النفسية الإكلينيكية أن “الشخص حين يعجز عن تحمل مسؤولية أفعاله، يبرر لنفسه عبر نقل اللوم إلى الآخرين أو تصوير نفسه كمظلوم”، لافتا إلى أن “وسائل التواصل الاجتماعي تعزز هذا السلوك، لأنها توفر جمهورا سريع الاستجابة، وتمنح إحساسا بالاهتمام الفوري، مما يشجع البعض على نشر ‘روايتهم’ ولو كانت منحازة أو مضللة”.

وقالت ندى الفضل إن “هذا السلوك طبيعي حين يبحث الإنسان عن التعاطف أو الدعم في موقف صعب حقيقي، أو حتى عندما يشعر بالظلم، ولكن دون تضخيم أو افتراء، وهذا أمر إنساني ويحدث للجميع؛ إلا أن هذا السلوك يصير مرضيا ويتحول إلى اضطراب نفسي عندما يصبح مزمنا ومتكررا، أي أن الشخص يلعب دور الضحية دائما في كل المواقف”.

ونبهت المتحدثة ذاتها إلى أن “هذا السلوك يُعتبر مَرَضيا عندما يكون مبالغا فيه وغير واقعي، مع تشويه متعمد للحقائق، أو حين يسعى إلى كسب التعاطف بهدف التلاعب بالآخرين أو لتفادي المسؤولية، أو إذا صاحبته اضطرابات مثل اضطراب الشخصية الحدية أو النرجسية، مما يؤدي إلى تدهور في العلاقات الاجتماعية أو الأداء اليومي؛ وهو ما يتطلب تقييما نفسيا أو تدخلا علاجيا”.

فاعلون في الحقل الرقمي

زكرياء أكضيض، أستاذ علم الاجتماعي، قال إن “الحقل الرقمي يُعد مجالا للصراع بين فاعلين.. وعندما نقول ‘بين فاعلين’، فإننا نعني أن هذا الحقل يتحرك داخله فاعلون يحملون خلفيات إيديولوجية وإثنية سياسية وقومية، وقد تمتد هذه الخلفيات إلى أبعاد أممية، وهو بذلك يستوعب حتى التناقضات الموجودة على المستوى الدولي”.

وأضاف أكضيض، في تصريح لهسبريس، أن “الفاعلين داخل الحقل الرقمي يتنافسون ويسعون إلى كسب تعاطف قاعدة عريضة من المتابعين. وهذا التعاطف لا ينبني على قيم أخلاقية خالصة؛ بل يتأسس على الرأسمال الرقمي الذي يراكمه هؤلاء الفاعلون عبر الزمن”.

وأكد المتحدث أن “الفاعلين في الحقل الرقمي لا يتحركون وفق ضوابط أخلاقية بالضرورة، حيث يصعب الحديث عن تعاطف رقمي محكوم بقيم الخير والشر أو العدل والظلم؛ بل إن الأمر يتعلق بحقل تستثمر فيه الرساميل الرقمية بهدف كسب التعاطف، ولو على حساب القيم الأخلاقية السائدة”.

وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن “الحقل الرقمي قابل لتزييف الحقائق، حيث يمكن أن يتحول المجرم إلى مواطن صالح، وقد يُقدم الصالح في صورة الطالح، والمعادلة هنا ترتبط، بدرجة أولى، بنِسب المتابعة الرقمية وبما يتوفر عليه الفاعلون من قواعد يمكن تعبئتها في اللحظات المناسبة”.

ولفت زكرياء أكضيض إلى أن “الحقل الرقمي يحكمه سلوك عقلانية قائم على مبدأ الربح والخسارة.. وعندما يستدعي الفاعل هذا المبدأ، فإنه يتحرك خارج إطار القيم الأخلاقية؛ فلا مجال، حينها، للحديث عن الصواب والخطأ أو العدل والظلم”.

واسترسل المتحدث عينه قائلا: “إن الربح والخسارة في الحقل الرقمي لا يُقاسان وفق معايير مبدئية، بل وفق مدى القدرة على التأثير، وعلى تعبئة الجمهور واستثمار الرأسمال الرقمي. ولهذا السبب، تُخاض معارك رقمية لا على المستوى الوطني فحسب؛ بل كذلك على المستويات الإقليمية والدولية”.

وختم زكرياء أكضيض توضيحاته بالإشارة إلى أن “التعاطف في هذا السياق هو تعاطف مشروط بحقل رقمي مشحون بالصراع، يتحرك داخله فاعلون يستثمرون رساميلهم من أجل تحقيق أهدافهم، وفق منطق الربح والخسارة، دون مراعاة واضحة للقيم الأخلاقية”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق